
قال المؤرخ مصطفى بوعزيز، إن كل مناظرة علمية ووفق طبيعتها تعد حقلا للتساؤلات وفضاء للحوار وتبادل الأراء، و أن محمد بنسعيد ايت إيدر شخصية متفردة لا يتسع لها النعت الطبيعي، الذي لا يغطي إلا جزءا من شخصيته ومساره.
جاء ذلك في تقديم المناظرة الدولية التي نظمها مركز محمد بنسعيد ايت ايدر للأبحاث والدراسات، يومي الحمعة والسبت 7 و8 فبراير 2024 بفضاء المكتبة الوطنية ال سعود بالدارالبيضاء، والذي تضمن برنامجه عدة محاور منها، “محمد بنسعيد آيت إيدر: مسار فريد”، و”محمد بنسعيد آيت إيدر: المواطنة ودولة القانون”، و”محمد بنسعيد آيت إيدر والمجال السياسي المغربي”، و” بنسعيد والمغرب العربي”، و”بنسعيد ومقاومة الاستعمار”، و”بنسعيد وقضية الصحراء”.
وأضاف بوعزيز، أن الهدف لم يكن تنظيم لقاء تأبيني لهذه الشخصية المتميزة بين أقرانها، بل تفكيك وإعادة بناء للديناميات التي صقلت القرن الذي كان فيه محمد بنسعيد فاعلا ضمن فاعلين اخرين، والذي تفاعل طواله بطريقته الخاصة مع تنوع ظرفيات القرن، وعمق حركاته الاجتماعية وثقل اكتشفاته العلمية، وما ترتب عن ذلك من تدافع للتاريخ ومن قطائع في السلوكيات والتمثلات.
وتابع المتحدث ذاته، أن بنسعيد كان أكثر من شاهد على هذا القرن، فقد كان فاعلا فيه وفي بعض الظرفيات كان فاعلا أساسيا، لقد عاش الاستعمار وتصفيته، عاصر نكبة الشعب الفلسطيني، وحصار غزة وتدميرها، وإبادة جزء مهم من ساكنتها، كما ساهم بنسعيد يضيف المؤرخ بوعزيز، في الدينامية الجامعة لحركة التحرر المغاربية، كما عاصر التوثرات والنزاعات، بل حتى الحروب بين الدول المغاربية المستقلة، حمل السلاح وقاوم وناضل في تنظيمات سرية وفي أحزاب علانية فرصد حدود وسقوف العمل داخل الشرعية المتاحة، واخترق بعض المرات حدود الخطوط الحمراء الموضوعة من لدن الأنظمة القائمة، سواء في المغرب أو الجزائر، أو فرنسا.
في السياق ذاته، أكد بوعزيز أن محمد بنسعيد مقاوم بالفطرة، وحتى نخاع العظم، انتفض ضد الاستعمار والإمبريالية والصهيونية والاستبداد، ومعظم أشكال المحافظة القاهرة، كان ملتقطا ومنتبها للتوجهات المجددة، التي عرفها القرن العشرين، وهذا فقط جزء من توجهاته وسلوكاته كرجل فعل، ورجل جامع وموحد.
وأوضح بوعزيز أن اللجنة المنظمة للمناظرة اقترحت الانطلاق من المرتكزات الأساسية لمحمد بنسعيد لصبر أغوار مختلف الأوراش التي انخرط فيها الراحل، والتي ساهم فيها بهذا القدر أو ذاك، لتفكيك بنياتها وجرد واقعها الحالي، وطبيعة الديناميات التي تعتمل داخلها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الحركات الاجتماعية، الحركات المطالبة بالحقوق المدنية وحقوق الإنسان، والنزاعات الجهوية، ودمقرطة الدول وأنظمتها السياسية، الإنصاف الاقتصادي، الحفاظ على البيئة وتوازناتها، وبكلمة صيانة كرامة الإنسان والإنسانية.
لقد كان القرن الذي عاش فيه بنسعيد كثيفا وقويا، بارتجاجته وتفكيكاته للثقافات وللسلوكات وللمجال عبر ثوراته العلمية والتكنولوجية والتواصلية والرقمية حيث تحدث هذه الثورات تحولات عميقة على البشرية عبر ما يسمى بالعولمة وما يصاحبها من اليات تفكيك بعضها عنيق وقد يؤدي إلى تدمير أسس التضامن والتعاضد الاجتماعيين، ومنظومات القيم والتوازنات الإيكولوجية، بل حتى تفكيك الدول الوطنية، بل وحتى تجاهل القانون الدولي.
وأضاف المتحدث ذاته خلال تقديمه للمناظرة، أنه تم اقتراح على الحضور محاور للدرس والأوراش التي ترك نسعيد بصمات فيها كرجل فعل، إذ أن مسيرته فيها طويلة في الزمن لم تكن خطا مستقيما، بل سياق مليء بالمنعرجات والفعل بالإصرار في اتجاه قناعته التحررية، لقد كان مسارا وسعيا معقدا نحو المواطنة بمعناها الكوني، وتجلى ذلك أولا تجاه نفسه، فالثقافة التي حملها بنسعيد كانت ثقافة دينية محافظة، إلا أنه فتحها لتغتني وتتناسب مع السلفية المغربية المتنورة والعروبة الموحدة، والتقدمية المجددة والماركسية والعلوم الاجتماعية.
وتابع بوعزيز، أنه وعبر قطائع كبرى وأخرى صغرى استبطن بنسعيد المواطنة كثقافة شاملة، وتجلى ثانيا يشير بوعزيز، في تمثله للمجتمع فالتحليل عبر الصراع الطبقي والقطائع عبر الثورات عوضها بمركزية الحوار والسعي للبناء المشترك، المؤسس على سمو رابطة القانون، إن هذا التمثل للمواطنة يشكل قاعدة مجتمع جديد ومتجدد.
تتجلى المواطنة ثالثا في تمثلات وممارسات بنسعيد في تصوره للدولة وسلطها، فمن الدولة الاستعمارية إلى الدولة الوطنية، لم تفقد السلطة طابعها الاستبدادي والتحكمي، هذا الطابع الذي غير فقط بعض من تجلياته، لذلك يركز بنسعيد على مركزية الشرعية الشعبية داخل أي نظام سياسي ديمقراطي وحداثي، فالمواطنة كثقافة شاملة هي الإطار الأوسع لكل ثقافة سياسية حديثة، لذلك عمل بنسعيد، مع كل شركائه خصوصا داخل الكتلة الديمقراطية على انبثاق مواطنة شاملة وحاضنة.
واسترسل في السياق ذاته، بتأكيد المتحدث نفسه، أنها مواطنة مغربية ومغاربية ومواطنة في العالم العربي، لقد كان بنسعيد يعتبر نفسه مواطنا حرا في العالم، إلا أن هذا السعي نحو المواطنة لم يكن لا سهلا ولا مستقيما، بل صراطا شاقا ووعرا انخرط فيه لقناعته أنه سيفضي إلى أفق واعد ومصداق ومحرر.
كان محمد بنسعيد يضيف المؤرخ بوعزيز والمدير العلمي للمركز، جوهرة نحتثها وهذبتها القوى العميقة خلال قرن كامل، القرن العشرون القصير كما نعته المفكر و المؤرخ أريك هوبسباوم، يراهن مركز محمد بنسعيد للأبحاث والدراسات، يضيف بوعزيز من خلال هذه المناظرة، التي نفتتحها اليوم على تلميع كل واجهات هذه الجوهرة وعلى رصد ديناميات هذه القوى العميقة المتميزة التي فرزت التحولات الكبرى التي جعلت من القرن العشرين، الذي عاشه بنسعيد، القرن القصير ولكنه الكثيف والقصير في نفس الان.