الرئسيةسياسة

السياسات الفلاحة التصديرية بالمغرب.. بين فشل تدبير الموارد وتهديد الأمن الغذائي

تحرير: جيهان مشكور

بعد 17 عامًا من تصدر عزيز أخنوش للمشهد الفلاحي، تتزايد الانتقادات الموجهة إلى السياسة الزراعية التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة، خصوصًا فيما يتعلق بالرهان على التصدير في ظل أزمة جفاف خانقة تهدد الأمن الغذائي.

ما كان في السابق محلّ إشادة من طرف البعض باعتباره يلبتسبة لهم يقدم نموذجًا ناجحًا لتحقيق عائدات مالية قياسية، أصبح اليوم موضع مساءلة، ليس فقط من المعارضة والخبراء، بل حتى من مكونات الأغلبية البرلمانية التي بدأت تعبر صراحة عن قلقها إزاء استنزاف الموارد المائية لصالح الأسواق الخارجية على حساب حاجيات السوق الداخلية.

في مناقشة التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات خلال جلسة عمومية بمجلس النواب، عبّر الفريق الاستقلالي عن موقف واضح بخصوص تدبير الموارد المائية، معتبرًا أن هذه القضية لا يجب أن تُعالج كملف قطاعي معزول، بل ينبغي أن تكون أولوية وطنية تتطلب تنسيقًا محكمًا بين مختلف السياسات الحكومية، وأكد أن نجاح أي استراتيجية فلاحية لا يمكن أن يتحقق دون ضمان استدامة الموارد الطبيعية، وهو ما يستوجب إعادة النظر في استثمارات الفلاحة التصديرية التي تستهلك كميات هائلة من المياه، خاصة في ظل تفاقم أزمة الجفاف، واعتبر أن الأولوية يجب أن تُمنح لمشاريع تعزز الأمن المائي والاكتفاء الذاتي الغذائي، باعتبارهما أساس الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.

أما فريق التجمع الوطني للأحرار، قائد الائتلاف الحكومي، فقد دافع عن حصيلة التدبير الحكومي للموارد المائية، مستعرضًا ما اعتبره إنجازات بارزة في مواجهة الجفاف، من بينها رفع السعة التخزينية للسدود، توسيع المساحات الزراعية المعتمدة على الري الموضعي، وزيادة عدد محطات تحلية المياه، وأشار إلى أن هذه الإجراءات تعكس رؤية حكومية متماسكة تهدف إلى التكيف مع التحديات المناخية وتأمين الاحتياجات المائية للقطاع الفلاحي.

كما أبرز الفريق دور الحكومة في توجيه الاستثمارات نحو مشاريع مبتكرة، مثل إعادة استعمال المياه العادمة، معتبرًا أن هذه الاستراتيجية تعزز الاستدامة وتساهم في تقليل الضغط على الموارد المائية التقليدية.

في المقابل، شدد فريق الأصالة والمعاصرة على أهمية التسريع في تنفيذ التدابير الواردة في البرنامج الوطني للتزود بالماء الصالح للشرب ومياه السقي، مطالبًا بضرورة احترام الآجال المحددة لإنجاز المشاريع الكبرى، خاصة تلك المتعلقة ببناء السدود ونقل المياه بين الأحواض، وحذّر من خطورة الاستمرار في تأجيل القرارات الحاسمة لمعالجة أزمة المياه، مؤكدًا أن الاستراتيجية الوطنية يجب أن تتسم بالجرأة والصرامة لضمان أمن مائي مستدام للأجيال القادمة.

فيما على أرض الواقع، يعاني المواطن المغربي من ارتفاع غير مسبوق في أسعار الخضر والفواكه، بينما تشهد الصادرات الفلاحية ازدهارًا، ما يعكس مفارقة تثير العديد من التساؤلات، فرغم توالي سنوات الجفاف، استمرت المملكة في تصدير كميات كبيرة من الطماطم، الأفوكادو، البطيخ الأحمر، والتوت الأزرق، وهي محاصيل تُعرف بمعدل استهلاكها المرتفع للمياه الجوفية، وبينما انخفضت الكميات المصدّرة بنسبة 15% سنة 2023 بفعل شح التساقطات، فإن قيمتها المالية لم تتأثر، حيث وصلت إلى 83.2 مليار درهم، وهو ما يعكس استراتيجية حكومية تراهن على الأسواق الخارجية أكثر من تركيزها على تلبية حاجيات السوق الداخلية.

ويبرر رئيس الحكومة استمرار هذا التوجه بارتفاع أسعار المنتجات الفلاحية عالميًا، مما ساهم في زيادة مداخيل القطاع رغم تراجع الكميات المصدرة، كما يعوّل على مشاريع جديدة لتحلية المياه، مثل محطة الداخلة المنتظر تشغيلها في 2025، لاستصلاح آلاف الهكتارات الزراعية الموجهة للتصدير، لكن هذا الطموح يطرح إشكالات كبرى حول استدامة السياسة الفلاحية، ومدى قدرتها على التوفيق بين متطلبات السوق الدولية وضرورة الحفاظ على التوازنات المائية والأمن الغذائي الداخلي.

الخبراء، وعلى رأسهم الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي المنضوية تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل، يرون أن هذا النهج لم يحقق الأهداف المعلنة في تأمين الغذاء للمغاربة، بل أدى إلى تفاقم الأزمة، حيث ارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق، وازدادت الحاجة إلى الاستيراد لتغطية الطلب الداخلي.

وأكدت الجامعة أن المغرب يواجه “أزمة غذائية حقيقية”، تتجلى في ضعف الإنتاج المحلي الموجه للاستهلاك الداخلي، وتزايد معدلات البطالة في المناطق القروية نتيجة اختلالات السياسات الفلاحية.

فمنذ 2008، عندما تولى عزيز أخنوش وزارة الفلاحة، تحوّل المغرب إلى نموذج يعتمد على الفلاحة التصديرية، متخليًا عن مفهوم السيادة الغذائية، ورغم ضخ مليارات الدراهم في القطاع، فإن هذه الاستثمارات لم توجه لتعزيز الإنتاج المحلي، بل خُصّصت لدعم الزراعات المُعدّة للتصدير، ما أدى إلى نقص المعروض من المنتجات الطازجة في الأسواق الداخلية ورفع أسعارها إلى مستويات قياسية. والأسوأ من ذلك، أن هذا النموذج لم يسهم في الحفاظ على فرص العمل، بل أدى إلى فقدان آلاف الوظائف في المجال القروي، فضلًا عن الأضرار البيئية الناجمة عن الاستهلاك المكثف للموارد المائية.

و مع استمرار هذا الوضع، يجد المواطن المغربي نفسه في مواجهة أزمة متعددة الأبعاد، حيث ترتفع أسعار المواد الغذائية الأساسية دون حلول ملموسة تلوح في الأفق.

في ظل هذه التحديات، يؤكد الخبراء أن الوقت قد حان لإعادة النظر جذريًا في النهج المتّبع، والتوجه نحو دعم الفلاحة الأسرية والمعاشية كبديل أكثر استدامة وقدرة على تحقيق الأمن الغذائي الحقيقي.

على المستوى العالمي، بدأت الدول تعيد تقييم سياساتها الزراعية لمواجهة المخاطر المناخية والاضطرابات الاقتصادية، بينما لا يزال المغرب متمسكًا بنموذج يجعله أكثر عرضة للتقلبات الخارجية، و في هذا السياق، يرى المختصون أن البلاد بحاجة إلى إصلاح زراعي شامل، يضع الفلاحين الصغار في صلب السياسات الفلاحية، بهدف تحقيق استقلالية غذائية حقيقية تحرر الاقتصاد الوطنيين من الارتهان للأسواق الخارجية، وتضمن مستقبلًا زراعيًا أكثر استدامة للأجيال القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى