الإنسانية تتحدى الإنسان.. في دراما (الرجل الذي عرف اللانهائية)
30/03/2025
0
بقلم:وائل احمد خليل الكردي
أيام الحرب العالمية الاولى .. في فيلم الدراما الواقعي (The man who knew infinity) انتبه كل الناس الى عبقرية وسمو عالم الرياضيات الهندي (رامانوجان) والى انجازه العلمي الخارق كأساس فيه.. ولكن هناك زاوية اظهرتها الدراما لا تقل أهمية مطلقا عن هذا الاساس، وهي موقف البروفسور (هاردي) عالم الرياضيات البارز في كلية ترنتي Trinty college في تصديه لحاملي العرف الاكاديمي الصارم دفاعاَ عن العبقري الهندي ضد تيار العنصرية الساحق تجاه غير الاوروبيين والذي بلغ اوجه في بريطانيا انذاك، حتى استطاع ان يحول كل هذا التيار الى صالحه بأن حصل له تحت هذا الظرف على زمالة الجمعية الملكية البريطانية ومن ثم عضوية كلية ترنتي الشهيرة وان يمشي على البساط الاخضر ككل اعضاء الكلية العظماء، فيما كان يبدو ذلك مستحيلا باطلاق..
ظهر هذا أولا منذ المشهد الذي تلقى فيه هاردي خطاب رمانوجان.. ثم العمل معا تجاذباَ وتنافراَ.. ثم زروة الحدث عندما عانقه مودعا اياه للعودة الى بلاده (مادراس – الهند) مؤكدا لنفسه ان علاقته برامانوجان كانت هي الحدث الرومانسي الاوحد الذي حصل له في كل حياته.. ثم كانت لحظة الحقيقة عندما القى كلمته متأثراَ في محفل ترنتي لتأبين رمانوجان الذي اخذه الموت باكراَ، حينها ابان عن فخره العميق انه من دون كافة العلماء قد زامل رامانوجان وانهما عملا معا.
وهكذا، توجد المتضادات دائما في كل شيء .. فكثيراَ ما تأتي المقاومة الانسانية ضد القوة الباطشة من عناصر داخلها.
وأن تيار الإنسانية مع قوة الفطرة السليمة زائدا العقل المنطقي اللامع يجعل الانسان الذي يحمل هذا غير مستسلم للظلم الانساني المجتمعي الذي يمارسه قومه ضد اخرين، حتى ولو كان قد تربى عليه ونشأ فيه..
الم يصدق فينا قول الرسول محمد عن كفار قومه (بل ارجو ان يخرج الله من اصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا).
فليست إذاَ التربية هي البوصلة الوحيدة الموجهة لحركة الانسان في حياته، ولكن التربية مع ترويض الارادة تفعل ذلك.
الكثيرون يقومون بعملية التربية لأبنائهم ولكنهم لا ينتبهون الى -وان انتبهوا لا يستطيعون- ترويض الارادة فيهم.. ويبدو ان هناك نوع من التنوير الذاتي المسمى (الضمير) مجهول المصدر داخل كل انسان هو الذي يعمل على توجيه ارادته وترويضها باتجاه معين، ويقوى هذا التنوير او تضعف قوته بقدر القرب من (المقدس) الحق، اي ما يتقدس في عقل الانسان ووجدانه ..
فالبروفسور هاردي كان ملحداَ حاد الالحاد ولكن هذا التنوير الذاتي سرى في دمائه بقوة لأن الله المقدس كان موجوداَ في اعماق نفسه، ولكن فقط أن الاثبات الرياضي والحجة المنطقية المادية وعوامل التربية التجربيبة التي اتسم بها الوعي الانجليزي كانت تغلب على قناعاته وتطغى على عينيه، ولهذا بدأ الصراع في نفسه بين هذا وذاك ساكنا في الظاهر، ثائرا في الخفاء، ولكنه ظل متغافلاَ عنه.
إلى أن أتاه رامانوجان بعبقرية رياضية مزهلة وفتح منفذا للثورة على الالحاد في نفس هاردي، بان زعم انه لا يعرف كيف تتألف المعادلات في عقله، فهو يجدها هكذا إلهاماَ، وأن الرب هو الذي يضع الصيغ الرياضية في ذهنه، فلا يجد قيمة وصدقاَ لمعادلاته الا لو كانت تعبر فكرة الله).. وعلى هذا، فشدة ارتباط هاردي برامانوجان بعد ذاك لم تكن بسبب الإبداع الرياضي وحده وانما ايضا بما كان يشعله هذا الارتباط في نفس هاردي من تحريض للتنوير الذاتي نحو تحرير الارادة لديه كي لا تظل أسيرة لعوامل تربيته..
ولقد دفعه هذا الشعور التنويري بالمقدس الخفي في داخله والذي روضته العلاقة برامانوجان الى أن يعترف امام علماء الجمعية الملكية وهو بصدد الدفاع عن أحقية وأهلية رامانوجان لنيل الزمالة فيها بكونه قد اسهم بإنجازه الرياضي في تحقيق شيئا من الحلم الانساني الخرافي لبلوغ اللانهائية، الأمر الذي جعل من رامانوجان هو بذاته حالة روحانية مجردة، ليقول (وها أنا في الأخير، قد صرت على يقين، أننا من نحن حتى نمتحن رامانوجان.. ناهيك عن الله)..
هكذا، تتحدى الإنسانية (أي الضمير) في داخل الإنسان هذا الإنسان نفسه وإرادته وتبقيه في كبد الصراع الى أن يرى الحق في نفسه وفي الكون. فما بالنا وقد أعطانا الله هذا (المقدس) الحق كتاباَ بين أيدينا نقرأه.