
رحلة عبر العدسة: مهرجان أفلام السعودية يحتفي بالرؤى الجديدة والهوية البصرية المتنوعة
تستعد مدينة الظهران لاحتضان الدورة الحادية عشرة من مهرجان أفلام السعودية، الذي يقام خلال الفترة من 17 إلى 23 أبريل تحت شعار معبّر هو «قصص تُرى وتُروى»، في تعبير واضح عن الرغبة في تجسيد السرد السينمائي بوصفه أداة للفهم والتواصل والبوح، هذه الدورة تأتي بجرعة مكثفة من الإنتاجات السينمائية التي تخوض غمار المنافسة في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة، حيث تسلط الضوء على 21 فيلماً تتنوع في أصولها بين السعودية والخليج والوطن العربي، لتقدم أطيافاً متعددة من التجارب الفنية والرؤى السردية.
تعكس الأفلام المختارة هذا العام مزيجاً غنياً من الأنماط البصرية والمقاربات الإخراجية، إذ تنفتح على موضوعات شديدة الخصوصية مثل الفقد والتحولات الداخلية والذاكرة الذاتية، مروراً بلحظات يومية تمس الحياة الواقعية ببساطتها وتعقيدها في آن واحد ومن خلال هذا التنوع، تبرز قدرة المهرجان على اكتشاف الأصوات السينمائية الجديدة، ورعاية القصص التي ربما لم تكن لتحظى بالاهتمام لولا هذا الفضاء الذي يضع الرؤية الشخصية في صدارة المشهد الإبداعي.
المهرجان من تنظيم جمعية السينما بشراكة استراتيجية مع مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي “إثراء”، وبدعم من هيئة الأفلام السعودية، و لا يقتصر على كونه مساحة للعرض والمنافسة، بل يُعد مختبراً للرؤى السينمائية الجديدة، ومنصة تجريبية لتقديم أعمال تُعرض للمرة الأولى على الصعيد الدولي، و من بين هذه الأعمال نذكر أفلاماً مثل «شرشورة»، «ونعم»، «محض لقاء»، «جوز»، «خدمة للمجتمع»، و«هو اللي بدأ»، التي تُجسّد دفعة جديدة من التجريب الفني والطرح المختلف.
يمكن ملاحظة التنوع السردي الذي يجمع بين الواقعي والتجريبي، وبين الطابع الشخصي والمقاربة الاجتماعية،في زوايا مختلفة من هذه المسابقة، ففيلم «قن» للمخرج مجتبى الحجي يقدم قصة طفل يعيش مغامرة رمزية للتكفير عن خطأ بسيط، فيما تكشف «تراتيل الرفوف» لهناء الفاسي عن توترات خفية داخل الأسرة في سياق رحلة عبر العلا.
أما «الإشارة» لناصر القطان فيُحوّل التوقف اليومي عند إشارة المرور إلى لحظة فلسفية حافلة بالتأمل.
ولعل أكثر ما يميز هذه الدورة هو الاهتمام بالعوالم الرمزية والخيال الطفولي الذي يزاحم الواقع بذكاء، و يظهر ذلك في «ناموسة» لرنيم ودانة المهندس الذي يغوص في فضاء رمزي يتناول موضوعات التمرد والانتماء من خلال مجاز بعوضي، أو في فيلم «ميرا ميرا ميرا» الذي يضع بطله في حي مهدد بالهدم ليواجه حدثاً غامضاً يُقلب حياته رأساً على عقب، وتتابع هذه الروح في «علكة» حيث تتحول مشاعر الطفولة الأولى إلى بوابة لفهم الذات والعالم، وفي «ملِكة» التي تستعير مغامرة طفلة صغيرة للبحث عن تاج جدتها كنافذة لقراءة الحنين وفقد الأشياء الجميلة.
يتنقل المهرجان كذلك بين الكوميديا السوداء كما في «يوم سعيد»، والتحقيق النفسي العميق كما في «محض لقاء»، وبين العبث الموسيقي في «شريط ميكس» واكتشاف الذات عبر تجربة السفر والشفاء من الفوبيا في «كرفان روان».
كل فيلم يحمل في طياته خصوصية طرحه، كـ«نور» الذي يقدم قصة طفل يجد معنى جديداً للحنان في حمامة مريضة، أو «جوز» الذي يواجه موضوع الأمومة والفقد من خلال عدسة مرضية شديدة الخصوصية، وتتخذ أفلام أخرى مثل «ونعم» و«خدمة للمجتمع» من الضغوط المعيشية مدخلاً للتعليق على الطموح والفرص الضائعة، فيما تتبع «١/٢ رحلة» مسارين نفسيين وعاطفيين يكشفان ارتباك البطلة في مواجهة علاقتها بوالدها وخطيبها.
وعلى مستوى التحكيم، حرص المهرجان على استقطاب أصوات متعددة الثقافات والتجارب، حيث يترأس لجنة التحكيم المخرج الياباني كين أوشياي، المعروف بميله للتجريب البصري، وتشاركه عضوية اللجنة كل من المخرج والأكاديمي السعودي الدكتور مصعب العمري، والمخرجة وكاتبة السيناريو ليالي بدر، ما يمنح المسابقة نظرة نقدية شاملة تتقاطع فيها الثقافة الآسيوية مع التجربة العربية في سرديات الفيلم القصير.
ولا تقف حدود هذا المهرجان عند المسابقة الرسمية فقط، بل يتسع البرنامج ليشمل أنشطة موازية تعزز من البيئة السينمائية المحلية، مثل سوق الإنتاج، وبرنامج «سينما الهوية» الذي يكرّس أهمية التعدد الثقافي، إضافة إلى عروض «أضواء على السينما اليابانية» التي تفتح نوافذ جديدة على تجارب سينمائية بعيدة ثقافياً وقريبة فنياً، كما يضم جلسات حوارية مع صنّاع أفلام ومهنيين، وتوقيع كتب أبرزها «الموسوعة السعودية للسينما»، التي توثق بشكل علمي هذا الزخم المتصاعد في الصناعة المحلية.
يثبت مهرجان أفلام السعودية بهذا الزخم والمحتوى المتنوع، أنه لم يعد مجرد تظاهرة سنوية، بل مساحة حيوية تتقاطع فيها الحكاية الشخصية مع البنية الثقافية، ويتحول فيها الفيلم القصير من شكل فني محدود إلى وسيلة فعالة للتعبير عن الهوية والقلق والأسئلة الكبرى في عصر تتسارع فيه التحولات وتتشظى فيه المعاني.