رأي/ كرونيك

المأمول،أن تطلق الجزائر “الدخان الأبيض”.. في سياساتها

سعود الاطلسي
بقلم: الكاتب والصحافي طالع سعود الاطلسي

بعد أسابيع قليلة، من وفاة البابا فرانسيس، ستتعلق عدسات الإعلام بمِدخنة الفاتكان في انتظار دخّانها الأبيض الذي يُفيد انتخاب “المجمع الكاردنالي” لبابا جديد.

“الدخان الأبيض”، شأن “الدخان الأسود” الذي يُفيد عدم اتفاق الكرادلة، وسيلة للإعلام مارستها الكنيسة الكاثوليكية لقرونٍ مضت، تُحافظ عليْها إلى اليوم، لتأصيل نفسها في التراث الكنيسي. وتلك كانت ضمن وسائل إشارات وأخبار مارستها البشرية على مدى قرون ما قبل وُجود الوسائل الحديثة للإعلام… مثل إشعال النار، قرع الطبول، ألوان الأعلام، المنادي، الحمَام الزَّاجل وغيرُها كثير…

مَجلس الأمن في الأمم المتحدة ليس لديْه مِدفأة تُطلق دُخّان الإعلان عن قراراته، لديْه الإعلام الحديث والمباشر للإعلان عنها… ومع ذلك يترقَّب المعنيون بِنزاع الصَّحراء المغربية والمهتمون به، في نهاية أكتوبر المقبل أن يصدر عنه ما يشبه “الدخان الأبيض” لإعلان قرار المجتمع الدَّْولي وتصميمِه على إنْهاء النِّزاع والتوَجُّه لحلِّه السِّلمي على قاعدة الحكم الذاتي، الذي اقترحه المغرب وأحرز على شبه إجماعٍ دولي على صوابيته وفعاليته وشرعيته.

انتبهتِ الأغلبية، الساحقة والنوعية والفاعلة في المجتمع الدولي إلى أن النِّزاع طال لنِصفِ قرنٍ منَ المُراوَحَة في نفس العبَث… نزاع طارئ لا مُبَرِّر تاريخي له ولا أفُق… منشَؤُه مُنازعة جزائرية في الحق الوطني الوَحْدَوي للمغرب، صادرةٍ عن تضايُق من الجيرة المغربية للجزائر صاحَب تكوين الدولة الجزائرية…

تضايُقٌ وانْزِعَاجٌ عبَّرت عنه باستفزازها “لحرب الرمال” سنة 1963، قبل أن تجد له في تطلُّع وَطني مَشروع للشباب المغاربة في الأقاليم الصحراوية الواقعة تحت الاحتلال الإسباني، مَدخلا للتحريض على افتعال “حركة انْفصالية” وجعَلت مِنها قُفّازها للإضرار بالمغرب…

وتلك كانت كوابح حل النِّزاع بعد استنفاذه إمكانية إجراء الاستفتاء… ومنذ 2007 و”الحكم الذاتي” هو المُقْترح الوَحيد الذي رمَى إلى فتح مَسار جَديد للْحل…

اليومَ، اكْتَسب مُقترح “الحكم الذاتي”، الذي أعلنه مَلك المغرب سنة 2007، قَناعة وثقة المجتمع الدولي الفاعل، بكونه سِلمي وجدِّي وواقعي والوَحيد المُمكن لمُبَاشرة مفاوضات ومساعي الحل الدائم للنِّزاع…

تأكيد هذا الاختيار، في الأسابيع القليلة الماضية، من عشرات الدول في أوروبا، إفريقيا، أمريكا اللاتينية وآسيا، والبارزُ منها التأكيد الفرنسي وبعده الإسباني، واللافت فيها تأكيد الإدارة الأمريكية، المصحوبِ بقرار استعجال الحلِّ وتعيين مَبعوثٍ للرئيس ترامب للوساطة بين الجزائر والمغرب في اتِّجاه تفعيل مَسار الحلِّ على أساس “الحكم الذاتي”… كل ذلك شجّع على تَوَقُّع أن يكون إعلان حلّ النزاع في أفُقٍ قريبٍ، بل وربّما من اجتماع مجلس الأمن المُقرّر لأكتوبر المقبل، يخرج “الدخَّان الأبيض” إيذانا بالقرار الذي يُشرِع مَدخل المسار الفعلي والسريع المؤدي إلى الحل العادل للنزاع ويُعلن الطّمْرَ النِّهائي لمَسْعَى الانْفِصال…
كلُّ الجُهْدِ الدَّوْلي الهادِف إلى حلِّ النِّزاع مُتَّجِهٌ إلى الجزائر…

الدولة في الجزائر تعرف ذلك وتلمسه وهي في وَضع تشنُّجٍ لعلاقاتها الخارجية مع عديد فرقائها، في الجوار الجغرافي أو في التّماس السياسي… والدولة الجزائرية افتعلت عدة أزمات مَجّانًا، وأكثَرها بسبب انفعالات لها موَجّهة للمغرب، ما جعلها في وَضْعِ الاستنجاد بالشّعب الجزائري وعبر قانونٍ يفرضُ التّعبئة العامّة… لتحَوِّل أزمات اليوم الناجمة عن سياسات دولة، إلى استهداف خارجي متآمر على الكيان الجزائري.

هو أسلوب اعتادت عليه أنظمة الحزب الواحد الحاكم التي انتعشت بعد الحرب العالمية الثانية وتآزرت خلال الحرب الباردة… ذلك النمط في أنظمة الحكم، هزّته ثورات، حقيقية أو موجّهة، وصِدامات مع التحوّلات السياسية، الاقتصادية والثقافية العالمية… دولة الجزائر كانت بعد ثورات أوروبا الشرقية، أنجزت أولى الخطوات نحو تجديد نظامها بتخلصها من هيمنة “حزب جبهة التحرير” عليها… ولكن الجيش الذي كان يكمن خلف دروع “جبهة التحرير” بقي هو نفسه الكامن في النظام، يُديره بثقافة الوصي على الدولة والمنتفع منها…

مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى نزاع الصحراء وقف عند حقيقة أن التوَتُّر بين الجزائر والمغرب مُعَرْقل أساس للحل… مسعد بولس مبعوث ترامب إلى المنطقة مكلف بالوساطة بين الجزائر والمغرب، لأنها مَدخل حلّ النزاع حول الصحراء المغربية… والذي تريد الإدارة الأمريكية حلّه “بدون تأخير”…

المغرب قدم ما لديه، واقترح حلا يتيح للجزائر الخروج من النزاع بسلاسة وغير مهزومة… لكن الجزائر تحتاج شجاعة تاريخية للانتصار على ذاتها… ولتكيُّفٍ، صعب، مع حقيقة أن عداءها للمغرب الذي ركَب وهم الانفصال بالصحراء المغربية، فشلَ… وذلك ضمن فشل عام لنظامها في إدارة آلياته التي استنفذت قدرتها على تدبير الشأن العام الجزائري..

عداء الدولة الجزائرية للمغرب سابق بعِقد من السنوات على افتعال نزاع الصحراء المغربية… وسيكون على المتدخلين في الموضوع أن يساعدوا الجزائر على اقتحام آفاق جديدة بنظام جديد متخلّص من عداء للمغرب لا مُبَرِّر له، أو لم يعد له مُبَرِّر، خاصة والمغرب يسعى لأن يحفظ للجزائر مكانَتها ويُدمِجُها، من موقع الفاعل في المشاريع التنموية الإفريقية، الناهضة بعموم المنطقة، مثل المبادرة الأطلسية أو أنبوب الغاز نجيريا-المغرب، أو في ما يُمكن أن يَنتج عن التطلُّعات التنموية المشتركة، المغربية الجزائرية، والتي للبلدين حاجة ضاغطة لها… ولكنها تحتاج، أوّلَ ما تحتاج، إلى نظام جزائري متخلص من سُمنَة الخُمول عن الحركة منذ ستينيات القرن الماضي…

لا أتوقع أن تكون دولة الجزائر جاهزة، خلال الأشهر القليلة المقبلة، للاندماج في التحوّل الجوهري الذي يتجه المجتمع الدولي لإنجازه، بدءا من نزاع الصحراء المغربية وإلى الوضع العام لهذه الرقعة من شمال إفريقيا وغرب الوطن العربي…

مقاومة النظام الجزائري، من داخله، للتحوُّلات المَحتومة عليْه، لن تطول، وإن كان ليس ضروريا أن تطول وأن تكون مُؤلمة… ومثل هذا الإنجاز قد تفلح في إبطائه فئة ما ولكنها لن تنجح في وقف اكتساحه… وليست محاولة “التعبئة العامة” إلا مُسَكِّنًا مَحدود المفعول… بينما المطلوب “دخان أبيض” يشاهد في سماء الجزائر… مُنْبَعثا من تجدد في سياساتها، لها ولجيرانها ولفرقائها…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى