الرئسيةثقافة وفنون

“أسفلت” من البقعة إلى مهرجان “كان”

في خطوة تُعد علامة فارقة في مسار السينما  الأردنية، حصد الفيلم الوثائقي “أسفلت” للمخرج الشاب حمزة حميدة والمنتج محمود المساد جائزة “الوثائقي قيد الإنجاز” في إطار برنامج “Cannes Docs” لمهرجان كان السينمائي الدولي لعام 2025.

هذا التتويج لا يُعتبر فقط إنجازاً فردياً لصنّاع الفيلم، بل يمثل إشادة دولية جديدة بالطاقات الإبداعية الأردنية وقدرتها على اقتحام الساحة العالمية بقصص نابعة من الواقع المحلي، محمّلة بحمولة إنسانية وسياسية تتجاوز الحدود.

حكاية إنسانية من أزقة أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين

يسرد “أسفلت” حكاية “ديبس”، شاب فلسطيني في العشرين من عمره، يعيش في “مخيم البقعة” شمال عمّان، الذي يُعد أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين في العالم، يتتبع الفيلم طموحات هذا الشاب البسيطة و رغبته في الزواج من حبيبته وكيف تتبدد تلك الأحلام البسيطة على وقع فقدان عدد من أقاربه في غزة، ما يدفعه إلى تعليق مشروع الزفاف، ويكشف عن هشاشة الحياة التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في الشتات،ديبس… شاب يمثل حياة جيل في المنفى.

هذه القصة الشخصية لا تنفصل عن سردية اللجوء الفلسطيني، بل تغوص فيها من زاوية إنسانية، بعيدة عن الخطابات السياسية الجاهزة، عبر شخصية ديبس، يطرح الفيلم أسئلة حول الحب والحياة والبقاء في الهامش، حيث تتقاطع الأحلام الصغيرة مع كوارث كبرى لتعيد تشكيل المصير، أنه واقع المخيمات الفلسطينية، ليس فقط كأماكن مكتظة ومهمشة، بل كفضاءات تنبض بالحياة، والأحلام المؤجلة، والتناقضات اليومية.

مقاربة بصرية جريئة تمزج الواقعية بالسخرية

استغرق الفيلم قرابة عامين من العمل الدؤوب، وهو ما انعكس على مستواه الفني والروائي.حيث اعتمد المخرج حمزة حميدة على مقاربة تمزج بين “الواقعية الساخرة والبساطة الإنسانية” ، مقدماً مشاهد يومية مأخوذة من قلب المخيم دون تصنع أو مبالغة، اللافت أن الفيلم لا يسعى لإثارة الشفقة أو الترويج لمظلومية مستهلكة، بل يعرض الواقع كما هو: قاسٍ أحياناً، عبثي أحياناً أخرى، لكنه دائماً حي ومليء بالتفاصيل التي يصعب تجاهلها.

من أكثر عناصر الفيلم فرادة، حضور شخصية “وردة” وهي حمارة تشارك “ديبس” رحلته، وتتحول إلى رمز ساخر وواقعي في آن، هذه الشخصية الغريبة والمحببة أثارت اهتمام النقاد في مهرجان كان، حيث علق المخرج خلال جلسة النقاش قائلاً: “الكل عم يحكي عن وردة… مبسوطين كيف في حمارة عم تتفاعل قدام الكاميرا بهذا الشكل”، وقد لاقى هذا التعليق استحساناً، ليس فقط لطرافته، بل لما يحمله من دلالة على استحضار المهمّش كعنصر سردي فاعل.

المخرج يتحدث: “أردتُ أن يرى الناس حياتنا كما هي”

 

في مقابلة خاصة، قال حمزة حميدة:

“كنت أبحث عن قصة صادقة تعكس تعقيد الحياة في المخيم، دون أن أستدرج عواطف المشاهدين نحو الشفقة أو البكائيات، ديبس لا يمثل نفسه فقط، بل جيلاً بأكمله يعيش على حافة الأمل والخذلان، أردت أن يرى الناس حياتنا كما هي: مليئة بالمفارقات، ولكن أيضاً بالحب والضحك والكرامة.”

وحول الجائزة، أكد حميدة أنها “دفعة معنوية كبيرة”، لكنها في جوهرها “اعتراف بأهمية رواية قصصنا بأنفسنا”.

أصوات من المخيم: شهادات من عمق الواقع

من داخل مخيم البقعة،

جاءت شهادات داعمة

للفيلم ومؤكدة على صدقه،، سعيد، أحد شباب الحي، قال:


“الفيلم يشبهنا، ديبس يشبه كثيرين منا، حتى وردة، يمكن أن تراها كل صباح عند مدخل السوق!”

أما “أم علي”، السيدة السبعينية التي تقطن المخيم منذ نكسة 1967، فقالت:
“الفيلم ما بالغ بشي، بالعكس، كان بسيط وصادق، وخلّى العالم تشوف إنو إحنا مش أرقام، إحنا ناس عايشين ومكملين رغم كل شيء.”

دعم محلي يعزز الخطاب البصري الحرّ

جاء هذا الإنجاز بدعم مباشر من “الهيئة الملكية الأردنية للأفلام” ، التي منحت المشروع تمويلاً ضمن برنامج دعم الأفلام الوثائقية الطويلة، و لا يُعد تمويلاً فقط، بل يعكس توجهاً استراتيجياً لتعزيز الصناعة السينمائية المحلية، وتشجيع سرد الحكايات الأصيلة التي تعبّر عن المجتمع الأردني والفلسطيني بتشابكاتهما المتعددة.

النجاح الذي حققه “أسفلت” في واحدة من أرفع منصات السينما العالمية، يُظهر كيف يمكن للأفلام المستقلة التي تُروى من قلب المخيمات والهامش أن تجد صدى لدى جمهور عالمي، عندما تُقدَّم بحرفية وصدق وجرأة فنية.

نحو سينما تنقل المخيم من “الهامش” إلى “العالمية “

في المحصلة، لا يُعتبر “أسفلت” مجرد فيلم وثائقي عن شاب فلسطيني ومخيم لاجئين، بل هو مرآة تعكس تجربة إنسانية غنية ومعقدة.
يسائل الفيلم الواقع السياسي والاجتماعي بعيون شخصية بسيطة تحلم بالحب والاستقرار، لكنه في ذات الوقت يُعيد الاعتبار لقصص المهمشين، عبر قالب بصري ولغوي جريء يخرج من النمطية.

إن تتويج “أسفلت” في كان، يمثل لحظة احتفاء ليس فقط بالسينما الأردنية، بل أيضاً بالقصة الفلسطينية التي لا تزال تجد طريقها إلى العالم، حين تُروى بجرأة وصدق وإبداع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى