
تعيش إحدى المجموعات البنكية الكبرى في العاصمة الاقتصادية، الدار البيضاء، على وقع حالة من الاستنفار القصوى، إثر اكتشاف اختلالات خطيرة تتعلق منح قروض عقارية بمبالغ ضخمة لمنعشين عقاريين تبيّن لاحقاً أنهم موضوع قرارات منع من إصدار الشيكات.
هذا الخرق الصارخ للضوابط البنكية قاد إلى فتح تحقيق داخلي موسّع شمل مختلف هياكل القرار والمراقبة داخل المؤسسة، وسط مؤشرات قوية على وجود ثغرات منهجية واحتمالات تواطؤ داخلي لم تُستبعد بعد.
من التحصيل إلى الانكشاف: بداية خيط الفضيحة
بدأت القصة من أقسام المنازعات التابعة للبنك، حيث لفتت ملفات تحصيل ديون عقارية متعثرة الانتباه إلى وجود أفراد سبق أن صدرت في حقهم قرارات منع من إصدار الشيكات، لكنهم نجحوا رغم ذلك في الحصول على تمويلات ضخمة بطرق توصف بـ”الملتوية”،حيث شكل هذا الاكتشاف نقطة انطلاق لتحقيق داخلي، سرعان ما توسع ليشمل مراجعة شاملة للإجراءات المتبعة في دراسة ومنح القروض داخل البنك.
تفكيك الثغرات: التدقيق يطال كل المستويات
التحقيقات التي باشرتها فرق التدقيق الداخلي لا تقتصر فقط على الملفات المشبوهة، بل تطال المنظومة ككل، انطلاقاً من وكالات البنك التجارية ووصولاً إلى اللجان المركزية المعنية بدراسة ملفات القروض، فوفقاً لمصادر مطلعة، تم التركيز بشكل خاص على التقارير الموقعة من قبل مديري الوكالات والتي أرفقت بطلبات القروض، فضلاً عن آليات التحقق من الوضعية المالية والقانونية للمنعشين العقاريين من خلال نظام “مكتب القروض” والمنظومة البنكية المشتركة، وهي خطوات احترازية يُفترض أن تشكل خط الدفاع الأول ضد المخاطر الائتمانية.
ما يثير القلق بشكل خاص هو احتمال وجود تواطؤ داخلي مكّن من تمرير هذه الطلبات رغم المؤشرات السلبية، وهو ما دفع المدققين إلى اعتماد مسارين متوازيين في التحقيق: تدقيق الوثائق من جهة، والبحث في شبكة العلاقات والمراسلات الداخلية من جهة أخرى.
ضمانات وهمية؟ الوثائق تحت المجهر
في ذات السياق امتدت المراجعة الدقيقة لتشمل كل الضمانات والوثائق المعتمدة في منح القروض، خصوصاً دراسات الجدوى التقنية والتجارية المعدة داخل المصالح المركزية للبنك، وشملت عملية التدقيق مشاريع عقارية متفرقة في ضواحي مدينة الدار البيضاء، وهي مشاريع يفترض أن تكون قد خضعت لتقييم دقيق للملاءة المالية للمقاولات العقارية ومسيريها.
فيما كشفت مصادرنا أن فرق التدقيق طلبت من مختلف لجان منح القروض تقديم ملفات شاملة تشمل ضمانات القروض، وبيانات الأداء السابقة للمستفيدين، إضافة إلى دراسات المخاطر المرتبطة بالمشاريع الممولة.
قنبلة الأرقام: مؤشر المنع من الشيكات يتصاعد
يتزامن هذا الحادث البنكي مع تحذيرات صادرة عن بنك المغرب، الذي نبه في تقريره الأخير حول وسائل الأداء إلى تصاعد مقلق في عدد الممنوعين من إصدار الشيكات، حيث ارتفع الرقم من 691 ألفاً إلى 701 ألف خلال عام واحد، فيما بلغ عدد الشيكات المرفوضة أكثر من 800 ألف.
تعكس هذه الأرقام أزمة ثقة تتنامى في سوق الأداء بالشيكات، وتسلط الضوء على الحاجة الملحة لإصلاح تشريعي ومصرفي شامل.
من جهته ، أعلن وزير العدل عبد اللطيف وهبي عن قرب تقديم مشروع قانون جديد يُراجع الإطار القانوني للشيكات، خصوصاً في حالات النزاع بين الأزواج، إضافة إلى دراسة إمكانية تحديد سقف مالي تنتفي معه المتابعة الجنائية، ما يعكس توجهاً نحو مقاربة أكثر توازناً بين الزجر والمرونة في التعامل مع الشيكات.
“ليزينغ” تحت المراقبة: الماضي يلاحق الحاضر
التحقيق البنكي لم يقتصر على القروض العقارية فقط، بل امتد إلى ملفات “الليزينغ” أو الائتمان الإيجاري التي تعود إلى سنوات ماضية، وقد تم فتح ملفات قروض تجهيز تم منحها عبر البنك الأم أو من خلال فرع متخصص تابع له، شملت تمويل شراء أراضٍ أو أوراش بناء، وهي ملفات تُخضع عادة لإجراءات احترازية مشددة نظراً لطبيعتها الاستثمارية الحساسة.
المحققون يدققون بشكل خاص في مدى احترام شرط المساهمة الشخصية (les apports personnels) في هذه العمليات، وهو عنصر حاسم في تقييم الجدية والملاءة المالية للطالبين، ويُنتظر أن تُفرز هذه التحقيقات خريطة أوضح لمواطن الخلل البنكي، سواء على مستوى العمليات الفردية أو على مستوى الثقافة المؤسساتية التي سمحت بتسلل هذه التجاوزات.
ما وراء الأرقام والملفات
لا تعكس الواقعة البنكية الجارية خللاً في آليات منح القروض فقط، بل تفتح الباب أمام تساؤلات أعمق حول شفافية القطاع البنكي، ومدى جاهزيته لمواجهة تحديات الالتزام الأخلاقي والمخاطر النظامية، و في ظل تصاعد مؤشرات التعثر المالي وتزايد حالات المنع من إصدار الشيكات، تبدو الحاجة ملحة إلى إعادة بناء الثقة بين الفاعلين في المنظومة المالية، عبر مراجعة شاملة للحوكمة، وتحقيقات لا تكتفي بالعرض بل تمضي عميقاً في كشف جذور الخلل.
هذه القضية ليست فقط اختباراً للنظام البنكي، بل مرآة لوضعٍ عام يحتاج إلى إصلاحات جذرية تقطع مع منطق “التسهيل من الداخل”، وتعيد الاعتبار لمبادئ الشفافية والمسؤولية في تدبير المال العام والخاص.
هذا ويعتبر بنك المغرب هو البنك المركزي المغربي وهو مؤسسة عمومية تتمتع بالاستقلال المالي، أسس في 30 يونيو 1959 بأمر من الملك محمد الخامس وباقتراح من حكومة عبد الله إبراهيم ليحل محل البنك المخزني المغربي.