
إثبات النسب: تقاطعات الأخلاق والقانون والدين في مرآة نقاش عمومي هادئ+صور
نظمت جمعية “نساء شابات من أجل الديمقراطية” يوم الجمعة 23 ماي الجاري، ندوة فكرية وقانونية بمدينة المحمدية، ناقشت إشكالية إثبات النسب في مدونة الأسرة، تحت عنوان: “نحو قراءة جديدة للنصوص الدينية والقانونية”.
اللقاء الذي احتضنته احد فنادق المحمدية، عرف مشاركة أكاديميات وخبيرات وناشطات حقوقيات، وسلط الضوء على تعقيدات هذا الموضوع الشائك الذي يتقاطع فيه القانوني والديني والأخلاقي والسوسيولوجي.
تعددية المقاربات وغنى النقاش
الندوة افتُتحت بكلمة تأطيرية للأستاذة مريم هواد، والتي أبرزت من خلالها أهمية تجاوز الصمت المحيط بموضوع النسب خارج الزواج، واعتبار الطفل محور النقاش القانوني لا ضحيته.
وتوزعت أشغال الجلسة الأولى، التي ادارتها الناشطة والإعلامية هدى سحلي، بين مداخلات لكل من الباحث عزيز الفن الذي عالج محور، مدونة الأسرة وسؤال المرجعية، نحو تجديد الفقه من خلال الفكر المقاصدي والفلسفة الحقوقية.
وفيه عرض إكراهات الواقع الفعلي، والتحولات التي مست المجتمع وفي القلب منه بنية الأسرة المغربية، وما يستدعيه ذلك من ضرورة لتجديد الفقه وأخضاعه للفكر المقاصدي، والانتصار لاحاديث ونصوص وأمثلة من السلوك المنفتح لبعص الصحابة، ولبعض الفقهاء المجتهدين.
فيما الأستاذة خديجة براضي، فقاربت التحولات التي تعرفها الأسرة المغربية وأثرها على المفاهيم القانونية، فيما تناولت الأستاذة نبيلة جلال التقاطع بين القانون والأخلاق، منتقدة رفض الاعتراف بالأطفال “حقوق الطفل“رغم إثبات النسب العلمي.
أما الناشطة الحقوقية كريمة نادر، فقد دعت إلى عدالة أسرية بديلة تُؤسس على كرامة الطفل ومصلحته الفضلى، بعيداً عن منطق العقاب الاجتماعي، من خلال عرضها لتجارب نسائية واقعية.
في هذا اللقاء المتميز تطرق هؤلاء النساء جميعهن كلٌّ من زاويتها الخاصة، في محاولة للإحاطة بالموضوع من جميع جوانبه،من منظور قانوني، مؤكدا اللقاء عن حدود مدونة الأسرة في إنصاف النساء والأطفال الذين يولدون خارج إطار الزواج، ومشكلة الاعتراف بالنسب رغم وجود وسائل علمية قطعية كاختبار الحمض النووي.
تحدثن في اللقاء عن ما يمكن اعتباره تخلف البنية الفوقية عن البنية التحتية، عن قصور وفوات قوانين وعدم قدرتها على مواكبة تحولات مجتمعية تحدث بإيقاع سريع، وتأتي بمشاكل فعليه، لا يمكن القفز عنها، وقدمن سواء الجالسات في المنصة او من الحضور أمثلة ملموسة وبالارقام عن نسبة الأمهات العازبات وعن معانتهن مع واقع قانوني ونصوص دينينة مكبلة.
وحضرت المقاربة السوسيولوجية، بكل ما تحمله من تحليل بارد وموضوعي، مسلطةً الضوء على الكلفة الاجتماعية والنفسية التي يدفعها الأطفال الذين يُحرمون من النسب، وعلى العنف الرمزي الذي تعانيه الأمهات العازبات.
كما لم يغب عن النقاش الجانب الديني، حيث تم التطرق إلى قراءات فقهية أكثر انفتاحاً تقرّ بضرورة الموازنة بين روح الشريعة ومقاصدها، خاصة حين يتعلق الأمر بحقوق الطفل.
من بين المتدخلات، نبيلة جلال، المحامية والفاعلة الحقوقية والباحثة في قضايا النوع، التي أكدت في مداخلتها أن “الحق في النسب لا يجب أن يكون مشروطاً بشرعية العلاقة بين الأبوين، بل ينبغي اعتباره من الحقوق الأساسية التي تضمن كرامة الطفل وإنسانيته”. وأضافت: “العلم اليوم، من خلال اختبار الحمض النووي، يمنحنا وسائل دقيقة لإثبات النسب، فلماذا يُصر القانون على التجاهل؟”
واختتمت الندوة بنقاش مفتوح، قدمت خلاله مشاركات شهادات حية تعكس حجم المعاناة القانونية والاجتماعية التي تواجهها الأمهات العازبات وأطفالهن. وتم التأكيد في التوصيات الختامية على ضرورة تعديل مدونة الأسرة بما يسمح بإثبات النسب البيولوجي، واستحضار المرجعية الحقوقية والمصلحة الفضلى للطفل كأساس للتشريع، في أفق بناء عدالة أسرية شاملة ومنصفة
الصوت الجماعي في مواجهة الطابو
اللقاء لم يكن مجرد عرض نظري، بل شكّل أيضاً مساحة راقية للتفكير الجماعي، حيث تداخلت الشهادات الشخصية بالتأطير العلمي، وانفتح الجميع على أسئلة صعبة، من قبيل: من له الحق في تحديد “الشرعية”؟ وهل يحق للقانون أن يعاقب الأطفال على اختيارات لم يتخذوها؟ وما الذي يجعل النسب حقاً “مستحقاً ممنوعاً” في آن؟
وتجدر الاشارة أن هذا اللقاء يأتي في ظل تحولات مجتمعية متسارعة يعرفها المغرب، وارتفاع الأصوات الحقوقية المطالبة بإصلاح شامل لمنظومة الأسرة، وبالاعتراف الكامل بحقوق جميع الأطفال، بصرف النظر عن وضعية والديهم القانونية أو الاجتماعية. كما يتقاطع النقاش مع مراجعات فقهية وقانونية بدأت تفرض نفسها، خاصة مع توصيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وتزايد القضايا المتعلقة بإثبات النسب في المحاكم المغربية.
وقد لا يحمل لقاء واحد أجوبة قاطعة على إشكاليات عميقة كهذه، لكنه بالتأكيد يفتح باب النقاش، ويدق على جدران الصمت، ويمنح الكلمة لمن نادراً ما تُسمع أصواتهم، في بلد يتلمس طريقه نحو المساواة والعدالة الاجتماعية، لتظل مثل هذه اللقاءات ضرورية لتوسيع هامش الحرية والتفكير المشترك في معارك لا تُخاض فقط في النصوص، بل في الوعي الجمعي أيضاً.