
من “محاميد الغزلان” إلى باريس: رحلة ابتكار خيمة “2 Second”
احتفلت شركة “ديكاتلون” العالمية فوق أحد مباني باريس الشاهقة بمرور عشرين عاماً على إطلاق خيمتها الثورية “2 Second”، التي غزت أسواق العالم وبيعت منها أكثر من 10 ملايين خيمة، في لحظة اختلط فيها المجد الشخصي بالاعتراف العالمي..
فهذا الابتكار الذي شكَّل ثورة في عالم أدوات التخييم، يقف وراءه اسم مغربي: عبد الرحمان العماري، ابن الصحراء الذي شق طريقه من الكثبان الرملية لـ”محاميد الغزلان” جنوب المغرب، إلى مصاف كبار المبتكرين في أوروبا.
من البداوة إلى الابتكار
لم يكن العماري يحمل في جيوبه ترف العلم أو التكنولوجيا حين تنقل في طفولته بين مسالك الصحراء، رفقة والديه البدو الرحل، لكنه حمل معه أهم من ذلك: مخزوناً حيّاً من التجربة الحية، وفهماً عميقاً لحاجيات العيش في البرية.
لقد كانت سنوات الترحال مختبراً مفتوحاً راكم فيه العماري معرفة غير أكاديمية بمشاكل التخييم، خاصة ما يتعلق بسرعة نصب الخيام ومقاومتها لعوامل الطبيعة.
في تصريح سابق، كشف العماري أن فكرة “2 Second” انبثقت من ذاكرته الشخصية، حين كان يشهد معاناة والده في تثبيت أوتاد الخيمة تحت شمس الصحراء الحارقة، وفي مواجهة الرياح التي لا ترحم، هذه التجربة، التي رآها العالم “بدائية”، كانت في نظره كنزاً من الإمكانات غير المستغلة.
“2 Second”: حين تنبض التكنولوجيا بروح صحراوية
أطلقت شركة ديكاتلون خيمة “2 Second” سنة 2005، واستهدفت بها محبي الرحلات والمغامرات في الطبيعة.
السر؟ خيمة تُنصب في ثانيتين فقط، بفضل نظام متكامل من الطيّ الذاتي باستخدام ألياف مرنة وهندسة ذكية، هذا و لم تكن مجرد منتج سهل الاستعمال، بل حلّ عبقري استجاب لحاجة واقعية قائمة منذ عقود.
وما لبث هذا الابتكار أن انتشر كالنار في الهشيم، خاصة بين فئة الشباب والمغامرين، ليصبح أيقونة بين منتجات ديكاتلون، ويُترجم إلى أكثر من 30 لغة، ويُباع في أكثر من 70 دولة.
حفل باريس: تتويج لمسار وطني في قالب عالمي
اختارت “ديكاتلون” أن تقيم حفلاً احتفالياً بهذه الذكرى المميزة على سطح أحد ناطحات السحاب في العاصمة الفرنسية باريس، في مشهدٍ حمل رمزية كبيرة: من أعلى بنايات المدينة التي طالما اعتُبرت مركزاً عالمياً للأفكار والابتكار، يُكرَّم منتج انبثق من أعماق الصحراء المغربية، ويحمل توقيع ابنها.
وخلال الحفل، كرمت الشركة المهندس المغربي عبد الرحمان العماري، ووصفت إسهامه بأنه “من أهم نقاط التحول في تاريخ الشركة”، مشيرة إلى أن خيمته فتحت الباب أمام توجه جديد في تصميم معدات الهواء الطلق، يقوم على البساطة والفعالية وسرعة الاستعمال.
البعد الاقتصادي: اختراع غيّر قواعد اللعبة
على المستوى الاقتصادي، لم تكن “2 Second” مجرد منتج ناجح، بل كانت نقطة تحول استراتيجية في أرباح ديكاتلون.
و تشير الأرقام إلى أن الخيمة ساهمت في زيادة مبيعات معدات التخييم بنسبة 25% خلال السنوات الخمس الأولى من طرحها، ودفعت بمنافسين كبار في السوق إلى إعادة النظر في فلسفتهم التصميمية، كما مكّنت الشركة من خفض كلفة الدعم التقني للمستخدمين، إذ لم يعد هناك حاجة لتعليمات معقدة أو تدخل بشري في النصب.
في العمق: ابتكارات الجنوب المهمّش
تحمل قصة العماري أبعاداً رمزية تتجاوز منتوجاً تجارياً، فهي تضع من جديد على الطاولة سؤالاً مُلحاً: كم من عبقري في الجنوب العالمي لم يُمنح فرصة التعبير عن أفكاره؟ وكم من “حياة بسيطة” في البوادي والجبال والصحراء تخفي في طيّاتها حلولاً عملية لمشاكل عجزت عن حلّها كبرى المراكز البحثية؟ إن نجاح العماري يذكّرنا بأن الابتكار لا يقتصر على المختبرات، بل قد ينبع من خبز التنقل، ولهيب الرمال، ومعاناة الحياة اليومية.
بوصلة تلهم الأجيال الجديدة
يُمثل عبد الرحمان العماري اليوم قصة ملهمة لجيل مغربي جديد يبحث عن التموقع في عالم الابتكار والتكنولوجيا دون التفريط في جذوره، فبين محاميد الغزلان وباريس، لم يكن الطريق مفروشاً بالورود، لكنه كان مفروشاً بالعزيمة والمعرفة الميدانية والشغف بالتغيير.
وإذا كانت ديكاتلون قد احتفلت بعشرين سنة من النجاح التجاري، فإن المغرب بدوره مدعو للاحتفال بعشرين سنة من عبقرية أحد أبنائه… عبقرية ترجمت الترحال الصحراوي إلى هندسة حديثة، ورفعت علم الوطن من الكثبان إلى ناطحات السحاب.