رأي في جدل على هامش” اللغط ” الذي سببته منشورات لوموند الفرنسية
28/08/2025
0
بعيدا عن التأويلات المغرضة، وبعيدا عن ” تعياشت ” البليدة، وتأكيدا لمواقفنا المبدئية من المؤسسة الملكية التي نراها ثابتا وطنيا ينبغي المحافظة عليه والعمل على تقويته من خلال دفعه الى المزيد من الإصلاحات الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، دون السكوت عن أعطابه واختلالات تدبيره الخفي للعديد من الملفات الاستراتيجية، وارتهانه للوبيات سرية قد تكون لها ارتباطات ضد مصالح المغرب في حاضره ومستقبله.
بقلم عبدالرحمان الغندور
وإيمانا منا أن الدفاع عن الثوابت الوطنية لا يعني أبدا الارتماء في أحضانها، ومغازلة منافعها، أو سكوتا عن ما ينتج عن سياساتها من انتكاسات حقوقية واقتصادية وسياسية.
من هذا المنطلق نبدي رأينا في فهم الهجوم المتكرر الذي تشنه جريدة “لوموند” الفرنسية على مؤسسات المغرب، ولا سيما المؤسسة الملكية، والذي تتطلب غوصاً عميقاً في طبقات متعددة من التاريخ والجيوستراتيجيا والإيديولوجيا.
لا يمكن اختزال هذه الظاهرة في مجرد مقال صحفي منحاز أو خطأ مهني، بل هي تعبير عن خلفيات ومرجعيات معقدة ومتشابكة، تمتد جذورها إلى علاقة قوة لم تستطع فرنسا تجاوزها بالكامل حتى بعد انتهاء عصر الاستعمار المباشر.
لا يمكن اختزال هذه الظاهرة في مجرد مقال صحفي منحاز أو خطأ مهني
فالعلاقة بين البلدين محكومة بإرث ثقيل، إرث يستند إلى حقبة الحماية الفرنسية التي مارست خلالها باريس دور الوصي على القرار المغربي.
لقد خلقت هذه الفترة تصوراً لدى نخبة فرنسية معينة بأن المغرب يظل ضمن مجال نفوذها الطبيعي، أو ما يعرف بـ “الحديقة الخلفية”.
لذلك، عندما يتبنى المغرب سياسة خارجية مستقلة ومنفتحة على لاعبين جدد، أو عندما يصدر قرارات سيادية لا تتماشى بالكامل مع الرغبات الفرنسية، يتم تفسير ذلك في بعض الأوساط بباريس على أنه خروج عن “الطاعة” المفترضة. وهذا ما يفسر استهداف المؤسسة الملكية، باعتبارها قطب الرحى ومركز القرار السيادي الذي يصنع هذا الاستقلالية، بوضعه في مرمى النيران بشكل دائم. فإضعاف هذه المؤسسة أو تشويه صورتها يصب في الهدف الاستراتيجي المتمثل في إعادة المغرب إلى دائرة النفوذ الفرنسي المطلق.
هنا ننتقل إلى المرجعية الجيوستراتيجية والاقتصادية، التي تشكل دافعاً أساسياً وراء هذا الخطاب.
ففرنسا، التي كانت تحتكر العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع المغرب، تجد نفسها اليوم في مواجهة منافسة حادة من قوى عالمية وإقليمية أخرى.
التقارب المغربي مع الولايات المتحدة في المجال الأمني، والشراكة الاستراتيجية المتينة مع دول الخليج، والتواجد الاقتصادي الصيني المتصاعد، وخاصة التقارب البليد مع إسرائيل من خلال التطبيع الذي يرفضه المغاربة، كلها عوامل أزعجت حسابات باريس التقليدية.
كما أن الدور الأفريقي المتعاظم للمغرب، وسعيه لبناء شراكات جنوب-جنوب حقيقية، يهدد المصالح الفرنسية التاريخية في غرب أفريقيا، التي ما زالت فرنسا تعتبرها مجالا حيويا لها.
“لوموند”، كصوت للنخبة المؤثرة في السياسة الفرنسية، تعكس هذا القلق الاقتصادي والاستراتيجي، وتحاول من خلال خطابها الإعلامي معاقبة المغرب على “تمرده” هذا وتثبيطه عن مواصلة هذا المسار.
ولا يمكن إغفال البعد الإيديولوجي والثقافي الذي يلوّن رؤية هذه الجريدة وغيرها.
فجزء من النخبة الإعلامية الفرنسية تنظر إلى العالم من خلال عدسة مركزية أوروبية متعالية، ترى في النموذج الغربي للديمقراطية الليبرالية المعيار الوحيد والصالح للقياس.
أي نموذج مختلف، كالنموذج السياسي المغربي القائم على إمارة المؤمنين والخصوصية التاريخية، يتم تصويره حتماً على أنه ناقص ومتخلف ويحتاج إلى إصلاح من الخارج. هذا الخطاب الأخلاقي، الذي يتخفى وراء شعارات الدفاع عن حقوق الإنسان والعلمانية، هو في جوهره خطاب سياسي بامتياز.
فهو يستخدم مفاهيم الكونية بشكل انتقائي، يتغاضى عن الإنجازات ويتجاهل السياق، بهدف وحيد هو إضفاء الشرعية على موقف سياسي مسبق يقوم على الوصاية ورفض الآخر المختلف. “لوموند” لا تقدم تقارير محايدة، بل تشارك في معركة إيديولوجية تهدف إلى فرض رؤية واحدة للعالم.
لا يمكن فهم هذه الهجمات بمعزل عن السياقات الداخلية لكلا البلدين
وأخيراً، لا يمكن فهم هذه الهجمات بمعزل عن السياقات الداخلية لكلا البلدين. ففي فرنسا، يتم استغلال ملف المغرب أحياناً في الصراعات السياسية الداخلية بين اليمين واليسار، أو حتى داخل التيار الواحد، حيث يصبح انتقاد المغرب وسيلة لمهاجمة الخصوم السياسيين الموصوفين بـ “الليونة” أو “التبعية” للرباط. كما أن وجود لوبيات ضغط معادية للمغرب، مرتبطة بجهات معينة، يوفر تياراً مستمراً من الروايات المغلوطة التي تجد أذناً صاغية في غرف التحرير. على الضفة الأخرى.
كما أن بعض الأصوات المغربية المعارضة أو الناقدة، والتي تعيش في المنفى أو لها صدى إعلامي في فرنسا، تساهم عن قصد أو غير قصد في تغذية هذه الرواية وتزويدها بما يُقدّم على أنه “شهادات من الداخل”، مما يمنح الهجوم غطاءً من المصداقية الزائفة.
في الختام، فإن هجوم “لوموند” ليس سوى عرض لمرض أعمق في العلاقة. هو تعبير عن غضب استراتيجي من تحول موازين القوى، واستعلاء ثقافي يرفض الاعتراف بالندية، واستمرار لنظرة استعمارية لم تستطع التقبل بعد أن الشريك الذي كان يوماً تحت الوصاية أصبح اليوم شريكاً حراً يحدد خياراته بنفسه.
إن رأينا يقوم على الجمع بين الصلابة في الدفاع عن السيادة والكرامة والانفتاح على الشراكة المتوازنة والمحترمة، وبين ضرورة الإصلاحات الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وتقوية الجبهة الداخلية عبر حماية حقوق الانسان وردع الانتهاكات التي تتعرض وتصفية الجو السياسي عبر اطلاق سراح جميع معتقلي الرأي وانتهاج سياسة اجتماعية ترمي الى التوزيع العادل للثروة وتلبية الحاجات الضرورية للمواطن المغربي.