عمر صبار رئيس المركز المغربي للدراسات والعلوم الاجتماعية
لم يكن مشهد ناصر الزفزافي وهو يخاطب المعزين من سطح منزل عائلته في الحسيمة مجرد لحظة إنسانية يودع فيها أباه الراحل، بل كان حدثا سياسيا بامتياز، محملا برموز ودلالات تتجاوز إطار العزاء لتلامس عمق النقاش حول علاقة الحركات الاجتماعية بالدولة، وحدود الصراع بين المطالب المحلية والانتماء الوطني.
منذ اعتقاله في سياق أحداث “حراك الريف”، تحول الزفزافي إلى رمز في الساحة السياسية والاجتماعية المغربية. فظهوره الأخير بعد حصوله على ترخيص مؤقت لحضور جنازة والده، جاء في ظرفية دقيقة، وفي سياق وطني يحمل الحراك الكثير من التأويلات المتناقضة. لكن الخطاب الذي ألقاه (من على سطح البيت) كان حريصا على إعادة صياغة هذه التأويلات، عبر رسالة واضحة: “مصلحة الوطن فوق كل اعتبار”، مع تعداد جهات المغرب الأربع، وكأن القائد السابق للحراك يعلن أمام الملأ رفضه لأي نزعة انفصالية، وتجديد تمسكه بالوحدة الترابية.
أولا – الخطاب كفعل تأطيري
وفق مقاربات السوسيولوجيا السياسية، يمكن فهم الكلمة باعتبارها عملية إعادة تأطير للحراك. التأطير هنا ليس مجرد اختيار كلمات، بل إعادة صياغة المعنى العام للحركة في أذهان الجمهور، من خلال استدعاء الوطن بجغرافيته الكاملة، حاول الزفزافي تحييد الخطاب الاتهامي الذي لاحق الحراك منذ بداياته، وإعادته إلى مسار شرعي جامع، بعيدا عن الاستقطاب الحاد.
ثانيا – الأداء الرمزي وبناء التضامن
إلقاء الكلمة من سطح المنزل، وسط أجواء الحزن والعزاء، حمل شحنة رمزية عالية. لقد جمع بين البعد الشخصي والبعد العام، القائد العائد بين أهله، في لحظة فقد، يستثمر العاطفة الجماعية ليعيد تثبيت صورته كابن بار للمنطقة، وفي الوقت نفسه كفاعل سياسي مسؤول. إذ يعتبر هذا النوع من الأداء العلني في الفضاء الاجتماعي المحلي أداة فعالة لإعادة إنتاج رأس المال الرمزي للقائد أمام جمهوره.
ثالثا – لغة التهدئة وإشارات المصالحة
إلى جانب الرسائل الموجهة للجمهور المحلي والوطني، تضمن الخطاب رسالة مباشرة للسلطات، تمثلت في شكر إدارة السجون والمندوب العام على تسهيل حضوره للجنازة. هذه الإشارة ليست تفصيلا هامشيا؛ فهي تفتح نافذة رمزية للتواصل، وتلمح إلى إمكانية تجاوز لغة القطيعة المطلقة التي وسمت العلاقة بين قيادات الحراك وأجهزة الدولة.
رابعا – القراءة من منظور قوة الدولة
من منظور سوسيولوجيا السلطة، هذا السلوك يمكن اعتباره إشارة قوة وسيطرة، للأسباب التالية:
– الثقة في قدرة الأجهزة على إدارة الموقف: الدولة تُظهر أن حضور شخصية بارزة مثل الزفزافي، حتى وسط أنصاره، لن يغيّر من توازن القوى أو يهدد الأمن العام.
– تأكيد الاحتكار المشروع للعنف: حيث أن الدولة تحتفظ بسلطتها كاملة، لكنها تختار متى وكيف تظهرها، ما يمنحها مرونة في التعامل مع الملفات الحساسة.
– استثمار الرأسمال الرمزي: الدولة هنا تراهن على أن السماح بالحضور سيعزز صورتها كسلطة قادرة على الجمع بين الحزم والإنسانية.
وفي الأخير فإن استدعاء الصحراء والجنوب والشمال والشرق، من أبرز نقاط القوة في خطاب الزفزافي، حيث مزج فيه بين الهوية المحلية والوطنية، ولم يكن مجرد استعراض جغرافي، بل محاولة واعية لدمج قضية الريف في إطار وطني شامل، وبالتالي كسر صورة «الاحتجاج الجهوي» التي استخدمت لتقويض شرعية الحراك في المخيال العام.