
رائعة سبيلبرغ فيلم “المحطة”: البرزخ بين الدولة والعدم
أنتج ستيفن سبيلبرغ في فيلم “المحطة” أو “المطار”، كوميديا نوعية حساسة تم تصميمها بدقة عالية وبمشاعر إنسانية عميقة، بطل الفيلم يدعى فيكتور نافورسكي وصل إلى مطار أميركي فحدث انقلاب في دولته، كراكوزيا التي لم يعد لها وجود.
لا قيمة لجواز سفره وتأشيرته لم يعد بلده ضمن قائمة الدول المعترف بها أمميا
لذلك لا قيمة لجواز سفره وتأشيرته، لم يعد بلده ضمن قائمة الدول المعترف بها أمميا، ولا يمكنه المضي قدما ولا العودة من حيث أتى. أخبره ديكسون مسؤول الجمارك (ستانلي توتشي) أنه حر في البقاء في صالة المطار، لكنه ممنوع أن تطأ قدمه الأراضي الأمريكية.. وقد ظل على هذا الوضع لعقدين من الزمان.. تصوروا!
حين يصبح المطار وطنًا مؤقتًا
نجد أنفسنا في فيلم “المحطة” للمخرج ستيفن سبيلبرغ، وبأداء استثنائي لطوم هانكس، أمام أطروحة فلسفية مموهة داخل سرد درامي بسيط، تستبطن أسئلة عميقة حول الهوية، الانتماء، القانون والوجود الإنساني في عالم لا يعترف بغير الورق المختوم.
فيكتور نافورسكي، يُصبح جوازه غير صالح، ويفقد الحق في الدخول أو العودة. عالق فيما يُسمى “المنطقة الدولية”، يعيش تجربة إنسانية قلّ نظيرها: حياة بكاملها داخل نقطة عبور لا يُفترض العيش فيها.
من خلال الصدام بين فيكتور وموظفي الأمن والهجرة، يبرز سؤال فلسفي حاد: ما معنى أن تكون مواطنًا؟ هل هي ورقة؟ قانون أم انتماء؟ يُجرَّد فيكتور من “الأهلية القانونية”، أي من تعريفه كفاعل قانوني، ويصبح كائنًا “بين- بين”، سجينًا بدون تهمة، بسبب نظام بيروقراطي لا يرى في الإنسان أكثر من جواز سفر. الهوية هنا ليست ذاتًا وجودية بل رقمًا في قاعدة بيانات، ليس الوطن سوى صلاحية وثيقة إذا سُحبت، تفقد معنى وجودك في العالم.
المطار كبرزخ وجودي: تعليق الهوية والزمن
ليس المطار في هذا الفيلم مجرد خلفية مكانية إنه بنية ميتافيزيقية، حيث يشبه فيكتور الأرواح في “البرزخ” الإسلامي أو “الليمبو” الكاثوليكي، المعلّقة بين الجنة والنار، لا هي حية بالكامل ولا ميتة.
إنه زمن مُجمّد، عالم بلا تاريخ ولا مستقبل، حيث تصبح “الهوية” غير صالحة، واللغة لا تشفّ عن شيء والأسماء لا تعني شيئًا. كما لو أن فيكتور صار “إنسانًا خارج هويته الإنسانية”، لا تعترف به دولة ولا يحتضنه وطن. نحن أمام تجريد وجودي للإنسان في عالم معولم لا يتسع لمن لا يملك أوراقًا صالحة.
إنه إنسان مُجرَّد من التاريخ، من الجنسية، من الحماية، من المعنى. كائن رمادي في عالم لا يعترف باللون الترابي للإنسان.
المطارات محطات، انتقالات في الزمان والمكان والقيم، الإقامة على حدود ملغومة مشوبة بالتحول المفاجئ، تضع الأفراد والجماعات على حافة أسئلة ملغزة وتحولات جارفة غير مخطط لها وغير مشتهاة، لكن وحدها الإرادة والتعاون يمكن أن تفرض تحولا لصالح الإنسان والعلاقات الاجتماعية..
أُجبر نافورسكي على الإقامة في مطار نيويورك، وسرعان ما سيجد رفاقا يعتمد عليهم ويحصل على وظيفة داخل المطار ويقع في حب مضيفة جوية (كاثرين زيتا جونز)، تدرب على تدبير أمور حياته اليومية، ورغم نفاذ صبر المسؤول الجمركي على المطار، فإنه وجد في دعم الكثير من العاملين سندا، ودبر مصدر رزقه من خلال رد عربات الأمتعة إلى رفوفها لاسترداد الأموال وإنفاق أرباحه على الطعام.
كان يستيقظ في الخامسة والنصف من صباح كل يوم، قبل وصول الركاب، يحلق ذقنه في المراحيض العامة. 18 سنة وهو محتجز بصالة المطار، لم ير سماء ولا أبصر شمسا، لكن أمله لم يغب.
اعتمد في البداية على كرم موظفي المطار والمسافرين الذين يعبرون.. يتمتع هؤلاء الأصدقاء بحياة اجتماعية سرية في المحطة، يتغذون على طعام شركات الطيران ويلعبون البوكر ويحكون باستمرار ويعشقون أيضا. يصبح نافورسكي بطلهم عندما يتدخل في قضية تفطر قلب الكل.
البيروقراطية كآلة نفي
يبدو هذا المعتقل الحر وسط مطار شاسع بلا هوية وطنية، غير هويته الإنسانية، ضحية سوء الحظ والتعنت البيروقراطي في المقام الأول، كان يقوده طموح بسيط وعد به والده، أن يوقع له عازف للجاز ليكمل عدد الفريق الذي عشقه والده الذي توفي دون أن يحقق حلمه الذي أصبح حلم ابنه، يعتقل الجمركي ديكسون نافورسكي ظلما، يعرض عليه اللجوء السياسي: “هل تخشى العودة إلى بلدك؟ أتخاف من شيء ما؟” فيرد نافورسكي: “أخشى الأشباح”.. ديكسون يرى في فيكتور تهديدًا لنظام مغلق. يريده أن يرحل لأنه يُربك النظام، يخرج عنه، يُحدث الشذوذ الذي ترفضه كل منظومة سلطوية.
يريد ديكسون خروج نافورسكي من المحطة لأنه لا يمكنه العيش هناك إلى الأبد، “لماذا لا يهرب؟” يسأل ديكسون أتباعه، حيث يقف نافورسكي بجوار باب مفتوح تركه ديكسون عمدا دون حراسة. تتمثل خطة ديكسون في نقل نافورسكي إلى سلطة أخرى ليتحلل هو من المشكل، يشرح لموظفيه: “أنت تصطاد سمكة صغيرة وتفكها بحذر شديد. ثم تعيدها إلى الماء، حتى يتمكن شخص آخر من اصطيادها”.
في مواجهة فيكتور، يقف موظف الهجرة ديكسون، الرجل الذي يُنفذ النظام وجسد عنف البيروقراطية الحديثة، نظام لا يقتل، بل يمحوك ببطء، عبر تجاهلك، عبر تحويلك إلى خلل إداري، إلى استثناء. هنا يطرح سبيلبرغ الأسئلة الكبرى: من يُعرّف المواطن؟ هل الهوية مسألة ورقية؟ هل العدالة قرار إداري؟ حيث الإنسان في المطار ليس إنسانًا بل حالة قانونية، تتأرجح بين “صالح” و”غير صالح”، كمنتج في سلسلة توريد لا ككائن له إرادة، حلم وتاريخ شخصي.
الحب كفعل رمزي لاستعادة المعنى
تعتبر علاقة فيكتور بمضيفة الطيران أميليا (كاثرين زيتا جونز) أكثر من قصة حب، تبدو لي مثل محاولة لإنقاذ المعنى في عالمٍ فقد رموزه. أميليا ضائعة، تتنقل من مطار إلى مطار، رجل إلى رجل، دون جذور.
يتقاطع مصيران عالقان، يهمسان لبعضهما بأن ثمة احتمالًا للحياة ولو مؤقتًا. هي امرأة تبحث عن شيء لا تدري ما هو، وهو رجل يتمسك بشيء لا يستطيع الوصول إليه. لقاءاتهما في المطعم أو بجوار النافذة تصبح طقوسا صغيرة تعيد للزمن معناه العاطفي، لكنها لا تكتمل.
الحب في الفيلم، هو لحظة عابرة من الإضاءة داخل عتمة الوجود لكنّه لا يكفي للنجاة. . الحب هنا ليس خلاصًا، بل دليل على أننا لا نزال بشرًا.
هذه الرحلة البسيطة تُحوّل فيكتور إلى بطل وجودي، حين يخرج في النهاية من المطار ثم يطلب سيارة أجرة ليعود إلى بلده، يدرك المشاهد أن الوصول لم يكن هدفه أبدًا. كان الهدف هو الوفاء للمعنى، للذات، لذاكرة الأب، لما يجعلنا بشرًا في عالَم
يختزلنا إلى وثائق. فيكتور لا يسافر إلى أمريكا للعيش، ولا للهرب، بل فقط ليحقق وعدًا لوالده: توقيع موسيقي شهير على صورته. لم يسافر فيكتور ليهرب من وطن، بل ليفي بوعد قديم لأبيه الذي كان يحلم بجمع توقيعات أشهر عازفي الجاز، والحصول على آخر توقيع. سافر بحثًا عن عن الوفاء، عن استكمال الجملة التي بدأها الأب ومات قبل أن يُتمّها.
إن الإنسان لا يعيش بوطن، ولا بهوية قانونية، بل بالمعنى الذي يمنح حياته شرعية داخلية. لحظة تحقق الوعد هي لحظة استعادة الذات، واكتمال الدائرة الرمزية. لا يهم بعدها إن عاد أو بقي، لأنه استعاد إنسانيته بفعل الوفاء لا بالوصول.
“الانتظار هو أعمق شكل من أشكال الوجود.” الانتظار في The Terminal ليس مضيعة للوقت، بل اختبار للجوهر. فيكتور يكتشف نفسه في هذا التعليق الوجودي، يُعيد بناء شخصيته من رماد “اللاهوية”، يصير رمزًا للإنسان الذي لا يملك شيئًا سوى “أخلاقه الداخلية. “فيلم “المحطة” يقدّم ما هو أبعد من دراما فردية. إنه مرآة لعصرٍ تهاوت فيه الحدود، دون أن تتهاوى السلطة. زمن سقطت فيه الأوطان كمعنى، وبقيت كشرط قانوني.
حين يصبح المكان شخصية
يحوّل سبيلبرغ المطار من موقع تصوير إلى شخصية درامية، تتفاعل، تضغط، تختبر، وتراقب. تزداد الزوايا الضيقة والكاميرات الثابتة في بداية الفيلم، وكأن المكان يخنق فيكتور، ثم تبدأ اللقطات الأوسع مع تطور علاقاته واندماجه الرمزي.
يصبح المطار قريبا من المدينة الطوباوية الصغيرة، حيث تنشأ صداقات، تُبنى حميميات، ويُصنع الأمل رغم غياب كل أدوات الحياة. بهذا، يتحول “اللامكان” إلى مكان معنوي بديل، إلى وطن مصغر، لكنه لا يُعوّض الوطن الحقيقي، بل يُعري غيابه.
المكان في فيلم “المحطة” حالة وجودية وليس مجرد مرفق عبور، مرآة عميقة لإنسان ضائع بين الورق والهوية، بين الدولة والمعنى، بين الحياة واللازمان.
نافورسكي رجل لا يشبه أي رجل واجهه ديكسون على الإطلاق، ليس لديه مكر ولا دوافع خفية، يثق في خدمة الهجرة وفي النظام القانوني الأمريكي ومن الطيبين هنا وهناك.. يقوم توم هانكس بعمل استثنائي في فيلم terminal، حاول العديد من الممثلين القيام به لكنهم فشلوا. إنه يلعب دوره بالكامل بصدق وبتماه كبير مع دوره، لا يبدو أبدا ككوميدي يبحث عن وسيلة للتحايل على الجمهور ليضحكه. لكن تمثيله مذهل حقا، لقد فعل الشيء نفسه في فيلم “Forrest Gump”.
الحلقة القادمة مع “فيلم قائمة الدلو”