
في مثل هذا اليوم 20 شتنبر من 2022، غادرت الناشطة والمناضلة السياسية، غزلان بنعمر عالمنا، بعد صراع مرير مع مرض السرطان.
في مثل هذا اليوم ودعتنا غزلان بنعمر الناشطة في حركة “20 فبراير” ، عن عمر 36 عاما، في وذلك في الساعات الأولى من صباح اليوم الثلاثاء (20 شتنبر)، بمنزلها في مدينة الدار البيضاء.
في مثل هذا اليوم، الذي يصادف مرور ثلاثة سنوات على رحيلها، وهي الشابة التي ارتبطت بحلم التغيير الديمقراطي، وهي لازالت طالبة مهندسة بالمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي، وواصلتها في عدة فعاليات ومنها حضورها المبكر على وسائل التواصل الاجتماعي، ومنه الفايسبوك، وانخرطت في فضاء الحوار اليساري، وكان حضورها قويا بعد ثورة تونس، وفاعلة رئيسية في ميلاد حركة 20 فبراير، وبعدها مناضلة في أحد تجارب اليسار المغربي وإن غادرتها وفي قلبها غصة وحزن عميق من مفارقة ازدواجية القول والفعل، من الادعاء بالحداثة والسقوط في فوات تنظيمي وبنية تنظيمية موروثة عن ماضي لاديمقراطي تلفظ كل جديد وتحارب كل تطور، ومنها قررت أن لا تعيد تجربة الانتماء الحزبي، وإنطلت على ارتباط وجدل لا يتوقف مع أهم الفاعلات والفاعلين فيه.
عاشت غزلان بنعمر تجربة المرض مثلما هي دوما كما عاشت سنواتها القليلة متميزة، وتعاطت معه بتميز وقوة وشجاعة قل نظيرها وخارج كل التصنيفات الإنسانية العادية، وقررت في يوم من الأيام بعد أن تمكن منها تماما، أن توقف التحايل معه.
عاشت غزلان بنعمر 35 سنة، لكنها عاشتها “مضروبة” في أكثر منها، عاشتها بطولها وعرضها، قال صديق مقرب منها يوم رحيلها، “غيب الموت المناضلة الشابة المحبة للحياة الشغوفة للمعرفة والمسكونة بهوس السؤال والمفتونة برحلة لم تتوقف يوما حتى في أشد اللحظات قسوة مع الم المرض في البحث بشغف عن معنى الحياة والموت وقبلهما سؤال الإنسان والإنسانية ومصيرها ومعهم أسئلة القيم والعدالة والمساواة، كانت تلتهم الكتب وقراءتها، وكانت تسرق من مصروفها المتواضع ميزانية خاصة باقتناء الكتب حتى من خارج المغرب”.
بهذه المناسبة المؤلمة تعيد “دابا بريس” نشر كلمة لحظة تأبينها وتخليد أربعينتها، وهي الكلمة التي كانت ألقتها وأعدتها رفيقتها وصديقتها هدى سحلي:
إلى روح غزلان بنعمر ؛
عائلة الفقيدة غزلان بنعمر؛
صديقات وأصدقاء غزلان بنعمر رفيقاتها ورفاقها؛
الحضور الكريم؛
باسمكن، واسمكم جميعا؛
إنها لساعة حزن أن نلتقي في غياب صديقتنا ورفيقتنا غزلان.
وإنها لساعة طيبة، أن تجتمع اليوم، بمناسبة الأربعينية، فنذكر صديقتنا غزلان، المناضلة، الحرة، المثقفة والمتوسعة علما طيبة الخلق جميلة الرفقة والصحبة.
يموت الإنسان ويبقى أثره، وأثر غزلان محفوظ في ذاكرتنا، غني بالأحداث والمواقف، ومشبع بالأسئلة، أسئلة تسائل الفرد تسائل جيلا تسائل مجتمعا تسائل الماضي والحاضر والمستقبل.
لقد عرفنا غزلان في خضم دينامية مجتمعية وسياسية فارقة في التاريخ المعاصر للمغرب، ومتميزة.
متميزة في ترفّعها عن أحقاد الماضي وتجاوزها لفكرة التصالح التي طبعت الزمن السياسي في العقد ما قبل سنة 2011، ومتشبثة في الوقت ذاته بتفاؤل الفكرة في تحقيق الرقي الاجتماعي ضمن نظام ديمقراطي يسمح بتصارع مختلف الرؤى التي تعتمل داخل المجتمع، وهكذا نهضت حركة 20 فبراير صوت الشعب الذي يريد، وهكذا كانت غزلان صوت الجيل الذي يلاحق الحلم، ويخضعه للتمرين الديمقراطي.
كانت غزلان متفردة بين بنات وأبناء جيلها
وكما كانت 20 فبراير متميزة في سياقها ، كانت غزلان متفردة بين بنات وأبناء جيلها. فلم تكن ممن يحرص على تقديم الأجوبة والحلول أو استعراض الأفكار السهلة والجاهزة، بقدر ما كانت مشغولة بطرح السؤال، حريصة على الفصل الدقيق بين جاذبية الشعار وصعوبات الواقع، فانخرطت بشكل قوي وشجاع في جميع الأوراش التي صاحبت احتجاجات 20 فبراير، وساهمت في جميع نقاشاتها، شاركت في إدارة اجتماعاتها وقادت برامج التعبئة، وزعت بيانات الحركة ولم تمل من شرح أهدافها، ووقفت عند كل تحدياتها وتناقضاتها، ولم تخجل من طرحها، لتستخلص كل ما هو ايجابي وبناء في التجربة وتستثمره في النقاشات ما بعد 20 فبراير، وتخوض أشكال أخرى للنضال استمرارا في البحث الدائم عن مداخل التغيير.
ولأن التغيير لا يأتي فقط بالانتصار للفكرة، وحصول الإجماع حولها، ولا يكفي الانتماء لجماعة تؤمن بنفس الفكرة لتحقيقها، خاصة في مجتمع مركب يزاوج بين الرغبة في التحرر والتمسك بالموروث الثقافي، إنما يقتضي التغيير خوض معركتين: معركة تفكيك النظم الثقافية من داخل جماعة الانتماء وفي مواجهة باقي الجماعات، ومعركة الديمقراطية وصعوبات الحداثة، وهو ما أدركته غزلان ومارسته فكرا وممارسة في سعيها للبديل المجتمعي المتحرر والمبدع بنسائه ورجاله متسلحة بقوة السؤال والحوار والتناظر، والجدية في طرح الأفكار، منطلقة من مشكلتها الحقيقية ” الحرية والكينونة” ولذلك كانت غزلان تقول في مناسبات مختلفة :
“أؤمن بالحرية كأساس لكل الانتسابات التي تجري بشكل تطوعي وإرادي، سواء لجهة الانتساب للحزب أو للعلاقات الإنسانية أو لغيرها من العلاقات للتيار والحزب والحركة، للصداقة أو الحب والعائلة. لا شيء يحد من هذه الحرية إلا ما جرى التعاقد حوله بشكل إرادي وبكامل حرية، ولذلك للسلفي أن ينتسب للسلفيين وللمحافظ أن ينتمي للمحافظين والعلماني للعلمانيين، ولاشيء يعطي لحريته في هذا الانتماء حرية في أن يسيء للآخرين، تخوين أو تكفير تشهير أو تجريح، وما يصدق على السلفي يصدق على العلماني، دون أن يعني ذلك أن لا يتحاورا ويتناظرا، لكن دونما تفاضل، أو استنادا لما قد يكون ضمن فضاء خاص ويراد تطويعه قسرا للفضاء العام …
لم أدعي يوما انتسابا لقيم موروثة عن بني اجتماعية ولى زمنها وللتاريخ منطقه الواقع يجري في تغير مستمر والذهنيات حاضنة لماضيها، ولو إلى حين… لم أدعي يوما ما لم أكنه، ولن أكون يوما ما لا أدعيه… لا عنادا، ولا غرورا، ولا حتى تمردا … قد يكون جنونا، أو عبثا، أو ضرورة … ذلك أن ما تنحته السنون لا يمحوه زبد البحر … أيّ بحر ….هي الحياة… لا أن نعيش… بل أن نكون….”
غزلان المحبة للمعرفة الشديدة الالتصاق بالكتاب
لقد عرفنا غزلان الإنسانة المحبة للمعرفة، شديدة الالتصاق بالكتاب، قرأت لكبار الفلاسفة بمختلف اللغات، وانشغلت بالأدب والفن والموسيقى، فكانت واسعة الاضطلاع والمعارف، وكانت كلما زادت معارفها اتسعت منطقة المجهول وزادت لديها الحاجة إلى المعرفة، وهكذا سخرت حياتها للتوغل في حقول المعرفة حتى آخر لحظات حياتها، بل جعلت من معاناتها مع المرض إمكانية جديدة للتوسع المعرفي والتقدم الأوسع نطاقا، حتى بلغت منطقها الخاص في التفكير ورفع كل الموضوعات إلى مستوى التجرد فناقشت العقل والحب والجسد والموت وجعلته مخاضا تعقبه ولادة، وكذلك قالت في أعمق تفكيرها المتفائل وامتداد مساحات الرؤية لديها وقد نال منها المرض ما نال: “حين أموت وأوارى التراب، ستحضنني الأرض ويتحلل جسدي ويصير دودا، وسأصير ولاّدة”.
ولكم من المعجز والمثير للدهشة أن يفكر المرء في موته ولادة.
لقد عرفنا غزلان الصديقة المفعمة بالحب والطيبة والرحيمة، حتى أنها آثرت على نفسها أن تكون محاطة بصديقاتها وأصدقائها في أيامها الأخيرة رأفة منها بهم.
وظلت ذكرى غزلان، صديقتنا المرحة والمتمتعة بحس الدعاية، المحبة للحياة، مرشدة لعقولنا، ومسائلة ليقينياتنا حتى في سخريتها منا.