
تحرير: جيهان مشكور
في زمنٍ لم يعد فيه التغيير خيارًا بل واقعًا، جاءت أرقام المندوبية السامية للتخطيط لتضع المجتمع المغربي أمام مرآته الحقيقية، مرآة تكشف ملامح تحوّل اجتماعي وديموغرافي عميق يطال بنية الأسرة، ودور المرأة، ومفهوم الاستقرار ذاته..
التقرير الجديد المعنون بـ “المرأة المغربية في أرقام” لا يقدم مجرد معطيات جامدة، بل يروي قصة بلدٍ يتغيّر في العمق، حيث تعيد المرأة رسم موقعها داخل البيت وخارجه، وحيث أصبحت الأرقام تتحدث بلسانٍ نقديٍّ عن تحولات تتجاوز الإحصاء إلى “الفلسفة” الاجتماعية والسياسية.
الطلاق.. من القطيعة إلى “الاتفاق”
كان الطلاق، إلى عهد قريب من الطابوهات، لكنه اليوم جزءاً من المشهد اليومي، بل ومن القرارات “العقلانية” التي يتخذها الأزواج بعيداً عن ضغط الأعراف والعيون المتربصة.. فالتقرير يكشف أن عدد حالات الطلاق قفز من 44 ألفًا و408 سنة 2014 إلى 67 ألفًا و556 حالة سنة 2023، قبل أن يستقر عند 65 ألفًا و475 حالة سنة 2024.
لا تعكس هذه الأرقام زيادة كمية فقط، بل تشير إلى تحول نوعي في علاقة المغاربة بالزواج.. فالجديد ليس في الأرقام وحدها، بل في الطريقة التي بات فيها المجتمع يتعامل مع قضاياه: حيث صار الطلاق الاتفاقي هو الشكل المفضل لإنهاء العلاقات، بعدما ارتفعت نسبته من 63.1 في المائة سنة 2014 إلى 89.3 في المائة سنة 2024.
بمعنى آخر، لم يعد الطلاق صراعاً دامياً في أروقة المحاكم، بل أصبح “جلسة تفاهم” في المقاهي أو عبر “الواتساب”، يتبادل فيها الطرفان الشروط بدل الشتائم.
إنه طلاق الجيل الجديد: سريع، رقمي، ومؤدب.
من جهة أخرى يعكس هذا التحول نحو الطلاق التوافقي تزايد الوعي القانوني والاقتصادي لدى النساء، وتراجع سطوة الأعراف التي كانت تجعل من استمرار الزواج هدفًا في ذاته، ولو على حساب الكرامة أو الاستقرار النفسي.
رجال يطلّقون في منتصف العمر.. ونساء يعِدن تعريف الاستقلال
واحدة من أبرز الملاحظات المثيرة في التقرير هي التحول في “التركيبة العمرية للمطلقينن، فقد ارتفعت نسبة الرجال المطلقين بين 45 و49 سنة من 20.9 في المائة إلى 32 في المائة، بينما تراجعت نسبة النساء في الفئة نفسها من 79.1 إلى 68 في المائة.
هذا يعني أن الرجل المغربي أصبح أكثر استعدادًا لإنهاء علاقة لم تعد تمنحه التوازن المطلوب، وأن المرأة بدورها لم تعد تنتظر “الطلاق” كمنفذ للهروب، بل كقرار واعٍ ضمن خيارات حياةٍ متعددة.
في بلدٍ لطالما ربط الرجولة بالتحمّل والزواج بالدوام، يعلن هذا التحول أن أدوار النوع الاجتماعي تعيد التشكّل، وأن “الزواج الأبدي” لم يعد هو المعيار الوحيد للحياة السعيدة.
النساء العائلات.. حين تتحول الأرقام إلى قصص صمود
يكشف تقرير المندوبية أيضاً أن 19.2 في المائة من الأسر المغربية اليوم ترأسها نساء، مقابل 16.2 في المائة قبل عقد.. أي أن امرأة من بين كل خمس نساء تقريباً أصبحت “ربّة البيت” بمعناها الاقتصادي الكامل، لا فقط الاجتماعي.
بل إن نسبة النساء اللواتي يعشن بمفردهن ارتفعت من 16.3 في المائة سنة 2004 إلى 28.9 في المائة سنة 2024، وهي قفزة تتجاوز كل التوقعات.
والأكثر دلالة أن النساء أصبحن يشكلن قرابة 40 في المائة من أرباب الأسر أحادية الوالدين، مقابل 1.2 في المائة فقط للرجال، ما يفضح التفاوت الصارخ في تحمل الأعباء الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع.
تسدل هذه الأرقام الستار عن دينامية جديدة في المجتمع، دينامية تؤكد أن النساء لم يعدن ينتظرن “القِوامة”، بل أصبحن يقُمن بأدوار متعددة: أم، ومعيلة، ومربية، وعاملة، وفاعلة اقتصادية في آنٍ واحد.
لكن خلف هذه الأرقام تلوح مفارقة حادة: فمن جهة، تتقدم المرأة بخطوات ثابتة نحو الاستقلال المالي والاجتماعي، ومن جهة أخرى، يزداد العبء المادي والنفسي عليها، في ظل غياب سياسات عمومية تواكب هذا التحول أو تؤطره.
اقتصاد بلا عدالة اجتماعية.. وسياسات تلهث خلف الواقع
إذا كان التقرير قد اكتفى بعرض الأرقام، فإن السؤال الحقيقي هو: أين الدولة من كل هذا التحول؟
ففي الوقت الذي تتزايد فيه نسب الطلاق والعزوبية، ما زالت نسب البطالة النسائية في المدن تتجاوز 20 في المائة وفق تقارير رسمية مقابل 11 في المائة لدى الرجال، وأن أجور النساء تقل بـ20 إلى 30 في المائة عن أجور الرجال في القطاعات نفسها، أي أن المرأة التي تتحمل عبء الأسرة كثيرًا ما تُترك في مواجهة السوق والغلاء والضرائب وحدها.
ما يعكس “المفارقة المؤلمة” أن هذه التحولات تجري في صمت، دون أن تُحدث زلزالًا في السياسات العمومية.. فخطاب “تمكين المرأة” لا يزال حبيس الشعارات والندوات، بينما الواقع يثبت أن “التمكين الحقيقي” يحصل قسرًا، عبر الانفصال أو الهشاشة أو غياب الدعم .
مجتمع جديد يولد.. بملامح نسائية
ما تكشفه المندوبية ليس مجرد تحول في الأدوار، بل ميلاد ” مجتمعٍ جديدٍ بأعرافٍ مختلفة” ، مجتمعٍ تُعيد فيه المرأة صياغة مفهوم الأسرة، والرجولة، والعلاقة، والاعتماد على الذات.
وربما تكون السخرية في أن الأرقام التي تثير القلق في تقارير الدولة، هي نفسها التي تثير الأمل في مجتمع أكثر صدقاً مع نفسه.
تقدم بخطى متعثرة نحو نضج اجتماعي مؤلم لكنه ضروري
فحين يختار الناس الطلاق بالاتفاق بدل البقاء في النفاق، وحين تخرج المرأة من عباءة “زوجة فلان” لتصبح “سيدة نفسها” ، فإن المغرب – رغم كل شيء – يتقدم بخطى متعثرة نحو نضج اجتماعي مؤلم لكنه ضروري.
لقد تحولت المرأة المغربية، في صمتٍ وذكاءٍ وإصرار، من “رمزٍ تقليدي للاستقرار الأسري” إلى “قوة اجتماعية واقتصادية حقيقية” .. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل ستواكب الدولة هذا الواقع الجديد بسياسات عادلة ومنصفة، أم ستتركه يتطور وحده إلى حين الانفجار الاجتماعي القادم؟
اقرأ أيضا…
مجموع حالات الطلاق الاتفاقي بلغ 2023 ما مجموعه 24 ألف و162 حالة