مراكش: قصر الحمراء جوهرة أندلسية مرصعة بخيال معماريين شعراء
تلك الخفافيش التي سكنت هذا الفراغ الشاسع الشاهد على تاريخ حافل انتهى بهزيمة أصحابه، لم يلتفت له الإسبان إلا في القرن التاسع عشر، حين كتب الأمريكي “واشنطن ايرفينغ” كتابه حكايات الحمراء، الذي حرك السلطات نحو استغلال هذا المكان، ليتوج على عرش المناطق السياحية الأكثر زواراً حول العالم، هذا ما آل إليه حصن الحمراء، بعدما طوى الدهر صفحات من الفن والإبداع الشاهدة على أكثر ممالك صموداً.
مقاومة الفن وفن المقاومة
قرابة 800 عام استمر حكم الدولة الإسلامية في الأندلس، ولقرنين من الزمان بدأت الهجمات الصليبية تطارد الدولة التي عجزت عن صد الهجمات الشرسة، فاستسلمت العديد من الممالك، وبقيت غرناطة شاهدة على المقاومة. على مدار 150 عاماً بنى النصريون مملكتهم فوق تل سبيكة، وبذكاء هندسي واضح، استطاع مهندسو السلطان صنع معجزة معمارية حقيقية، وتطويع الطبيعة لأجل غرضهم، فالهضبة التي بني فوقها القصر ذات تربة حمراء، عند امتزاجها بالماء تتحول للون الأحمر الآري وتتشكل في قوالب ثابتة لا تتأثر بالشمس أو الماء.
أنطونيو أوريغويلا الخبير في عمارة قصر الحمراء والباحث المعماري، صرح في أحد لقاءاته الصحفية أنّ “اختيار تل سبيكة لبناء القصر كان اختياراً عبقرياً بحق، فهي أفضل مكان للبناء من حيث الثبات الهندسي والارتفاع الذي يجعل السلطان مطلاً على مدينته بالكامل، كما أنّ بناءه على تلة منحدرة يحمل بعداً نفسياً وهندسياً، فقد أتاح للمهندسين وقتها ابتكار تقنية فريدة لإيصال مياه النهر إلى داخل القصر، كما أنّه يعطي هيبة للمملكة وحكامها، الذين ينظرون إلى الأعداء من أعلى التلّة”.
وجاء أبو يوسف الحجاج، الذي أضفى الجمال الحقيقي على القصر، فكل مظاهر البناء التي اتخذها الملك لم تكن إلا جمالاً يعطي الرهبة في النفس من قوة هذا الملك الذي لا يقهر، وبعبارة “لا غالب إلّا الله”، التي اتخذها النصريون شعاراً لهم نقشت بخط أندلسي على كل الجدران، المرصعة بالأحمر والأزرق المستخلص من حجر اللازورد الذي استجلبه الأندلسيون من أفغانستان، إذ يساوي قيمة الذهب وقتها.
الحصن المنيع
استعرت الحرب بين ملك قشتالة وجنود غرناطة التي أرادوا السيطرة عليها، إلاّ أن أبا يوسف استطاع تأمين جنوده عن طريق مهندسيه، فبين كل المميزات التي تمتع بها قصرالحمراء، إلاّ أن المياة العذبة كانت أكبر العوائق التي واجهت المهندسين، فأسفل التلة يجري النهر وينساب الماء بشكل مستقيم يبعد قرابة 200 متر، مما حفزّ المهندسين ابتكار قنوات شًقت في قلب الجبل، وسد مائي استطاع ضح الماء إلى القصر في قنوات، لسقاية قاطني البناية والبالغ عددهم قرابة 5 آلاف شخص، بالإضافة إلى زراعة الأراضي الخصبة المحيطة بالتلة، والتي يتعايش عليها السكان، وأحواض الزهور المنتشرة في أرجاء القصر، والتي تعتبر أهم معالمه الطبيعية.
الدكتورة أميرة بنيسون، الباحثة المعمارية رأت أنّ وفرة الماء كانت أهم ما يشغل بال المسلمين آنذاك: “لقد جاء الإسلام من الصحراء، وهي بيئة الماء فيها شحيح لذلك هو أمر مقدس، فقد دفعتهم الحاجة الملحة للماء إلى ابتكار طرق جديدة لم يعرفها أحد من قبل لإيصال الماء لداخل القصر، وجعل الماء الجاري في كل أنحاء البهو معلم جمالي، وهذا دليل على تقديسهم للماء الذي حُرموا منه في البيئة الأم، وقد أدرك محمد بن نصر، أنّ قلعته هي آخر فرصة لديه للحفاظ على المملكة الإسلامية، فحرص ومن بعده أبناؤه على ازدهار الحياة داخل مدينته”.
عندما يحكم العلم
كان على مهندسي السلطان تطوير أدواتهم، فأدوات الحرب تخطت مرحلة التسليح، وعدد الجند، وصارت القلعة سلاحهم في مواجهة الصليبين، لذا عكف العديد من مهندسي القصر على ترجمة المخطوطات الهندسية الإغريقية واليونانية، والتي ألهمتهم لصنع المزيد من الإبداعات داخل القصر، ففي بهو الأسود أحد أشهر قاعات القصر اثنا عشر أسداً من مادة الرخام الخالص يعلوهم إناء مستدير من الماء الجاري.
كان هذا قمة العبقرية المعمارية، كما عبّرت عن ذلك الدكتورة داليا مجدي الباحثة في علم الآثار، إذ إنّ “المعماري المسلم كان مبدعاً بطبيعته، وتجلى ذلك في حرصه على التفاصيل الدقيقة التي تحقق الوظيفة المعنية بالحفاظ على الشكل الجمالي؛ فمثلاً الأسقف منشورية الشكل ذات الزخارف البديعة في قصر يوسف، بالرغم من جمالها، إلّا أنّها صممت لأجل حماية الأسقف من تساقط الثلوج والأمطار، ونرى في بهو الأعمدة تجلي المعاني الجمالية مع الوظيفية، بالإضافة للرؤية الفلسفية التي تعكس موقفاً سياسياً”.
تعمّد مهندسو الحمراء إثارة الرعب في نفوس أعدائهم من الخارج وبث الرهبة نفوس السفراء الذين يلجون القصر
كما استخدم المعماريون مادة الجص ذات القدرة على التماسك في بناء الجداريات والنقوش المثلثة والمستطيلة، وابتكروا وحدة قياس خاصة سموها “ذراع الرشاشي” وتساوي 62 سم، ليستخدموها في قياس المربعات المتساوية التي رفعت الأعمدة بقياسات منضبطة على أقطارها، وهو ما حقق التطابق الفريد الذي يتميز به القصر، وهي تقنية هندسية أخذوها عن الإغريق التي اتسمت معالمهم المعمارية بذات الدقة المتناهية التي لا نظير لها، فبعد الهزيمة النكراء التي تلقاها يوسف الأول في معركته مع القشتاليين، أراد إبهار شعبه، فأمر ببناء برج المراقبة الذي يواجه المدينة، ولتلقي الرسائل عبر المرايا العاكسة خلف الجبال التي تخبر بقدوم العدو أو اقتراب هجمات عسكرية، لقد سعى يوسف الأول لإخافة أعدائه بصروحه المنيعة بعد فشله العسكري في مواجهتهم.
باحة السفراء..مفخرة القصر
قصر يوسف الكبير يضم بهو السفراء؛ حيث يستقبل الملك الرسل القادمين إلى مملكته، وكل ما فيه يبعث الهيبة في النفس، وهو ما يظهره التصميم الفريد، الذي زانته النقوش من كل حدب وصوب، ناهيك عن الألوان التي تعكس جماليات تلك النقوش، وأبيات شعر ابن زيدون ومزدك التي لا زالت حاضرة إلى يومنا هذا، ما يعكس هيبة الملك الذي عضّ على مملكته بالنواجذ.
وفي دراسة للدكتور عيسى صقر المدرس بجامعة الملك سعود، بعنوان “حمراء غرناطة وتطورها بعد ضياع الأندلس”، يستعرض تاريخ الحمراء ومكانتها الاجتماعية والتاريخية، حيث “تكتسي الحمراء ثوباً جميلاً من النبل والكبرياء يجعلها شامخة رغم مسحة الأسى والألم التي تكسو جدرانها، وروح الحزن المخيمة على أبهائها، وكم يعجب الإنسان لرشاقة بنيانها، وخفة روحها وعظمتها وكبريائها، وكأنّها رغم عوادي الزمن تريد أن تؤكد لكل زائر أنّها مقر الأمجاد”.
لقد تعمّد مهندسو الحمراء في كل تفصيلة فنية إثارة الرعب في نفوس أعدائهم من الخارج، وبث الرهبة نفوس السفراء الذين يلجون القصر، وهو ما يعكسه تصميم الأسقف التي بلغت طولها 23 متراً، ورصعّت بالنجوم المزدانة حول المركز، في رمزية واضحة إلى قوة الملك الذي لا يقهر.
صداقة الأعداء
في السادسة والثلاثين من عمره قتل السلطان يوسف الأول على يد أحد خُدام القصر، وهو ما أفسح الطريق لابنه محمد الخامس الذي استكمل نهج أبيه في العمارة والبنيان، فلجأ إلى ملك قشتالة الذي يعتبر العدو الأول لوالده. وفي هذا السياق تحدثت الباحثة أميرة بينسون، في لقاء تليفزيوني عن الصداقة التي نشأت بين محمد الخامس وبيدرو ملك قشتالة، قوامها التشارك الفكري والحس الفنيّ. لقد تنحّت الخلافات السياسية أمام التشارك الفكري وجماليات الفن الذي عشقه الرجلان، وهو ايضاً انعكاس لما أسمته بـ”السماحة في التعامل مع غير المسلمين من قبل المسلمين”.
أحبّ ملك قشتالة، وحاكم مملكة أراجون فن العمارة، وهو ما حفزّ محمد الخامس إلى الإغراق في جماليات الحمراء، وإضفاء المزيد من الفنون المعمارية الإضافية مثل الزخارف المغربية وهي فن إسلامي خالص، وأنشأ “جوهرة القصر”، وهو نتيجة للتنافس الذي نشأ بينهما من حيث صنع معمار اكثر جمالاً، وهو انبثاق شغفهم بالمعمار وفنونه، وما زاد جمال قصر محمد الخامس، كان جمعه بين النموذج القشتالي، والإسلامي في فن العمارة، مما أضفى عليه جمالاً منقطع النظير.
في عام 1492 تحالف ملك قشتالة مع أراجون تحت راية إيزابيل وفرديناند، ومهدوا لسقوط غرناطة، والقضاء على آخر معقل للمسلمين في الأندلس، وبقي قصر الحمراء شامخاً فوق التلة، كشاهد على إبداع الفن في مواجهة الحرب، والصمود في وجه الهزيمة.
المصدر: منى يسري كاتبة وصحافية مصرية عن موقع حفريات