ذاكرةسياسة

ذاكرة: حفيظ.. متفاعلا كصحافي مع الربيع العربي بصيغته المغربية ومعضلة أزمة النخب وشيخوخة مداخل التغيير

“دابا بريس” ، تنشر تجربة صحافي واكب حدثا تاريخيا ولحظة تاريخية اسمها حركة 20 فبراير… ضمن سياق ما سمي ربيعا عربيا ..

محمد حفيظ

 

قبل 10 سنوات، عشنا ذلك الحدث التاريخي الذي سمي إعلاميا بـ”الربيع العربي”، حين بوغتت عدد من الدول العربية باحتجاجات سرعان ما تحولت إلى انتفاضات عَمَّت ساحاتِها وشوارعَها ووصل سقف مطالبها إلى “إسقاط النظام”.
انطلقت شرارة تلك الانتفاضات، التي تحولت إلى ثورات، من تونس باحتجاجات أشعلتها حادثة البوعزيزي، ثم ما لبثت أن انتشرت بعدد من بلدان المنطقة العربية، ولم تسلم منها بلادنا التي عاشت “النسخة المغربية” التي أطلقتها حركة 20 فبراير.
شاركتُ في أول مسيرة من مسيرات حركة 20 فبراير بالعاصمة الرباط يوم 20 فبراير 2011، وبعدها شاركتُ في عدد من تظاهراتها بالدار البيضاء، مسيراتٍ ووقفاتٍ…

ومن موقعي الصحافي، واكبتُ ذلك الحدث التاريخي وتفاعلتُ معه بافتتاحيات بصحيفة “الحياة الجديدة”.

أول افتتاحية ذات صلة بالحدث كتبتُها قبل خروج حركة 20 فبراير إلى الشارع بشهر (نُشرت بتاريخ 21 يناير 2011)، تفاعلا مع ما كان يجري في تونس وليبيا ومصر واليمن… وكان أحد أسئلتها: هل يمكن أن يحدث بالمغرب ما حدث بتونس؟ بعدما كان هناك من يدعي أن المغرب لن تصله “عدوى” انتفاضات..

(الحلقة 6) النخب الضائعة

من بين مظاهر الأزمة التي ألمت ببلدنا، منذ زمان، «أزمة النخبة». ولا يمكن، هنا، أن نقلب هذه العبارة، لنتحدث، كما درج البعض، عن «نخبة الأزمة». فهذه العبارة لا تصلح لتوصيف النخبة التي أريد أن أتحدث عنها. فـ«نخبة الأزمة» هي التي تتشكل الآن، وهي التي كانت وراء ثورة تونس وانتفاضة مصر، وهي التي تتحرك في أكثر من بلد عربي، في فضاءات المواقع الاجتماعية، وتكشف عن وجهها من خلال الحوارات والنقاشات في «الفيسبوك» و«تويتر» وغيرهما. وهي التي بدأت تتحرك في المغرب، ونجحت في أن تخرج إلى الشارع العام يوم 20 فبراير، حاملة مطالب سياسية واجتماعية واقتصادية، لم تعد نخب أخرى تستطيع أن ترفعها.

نحن، اليوم، بصدد ولادة نخبة جديدة، أفرزتها الأزمة التي شملت مختلف نواحي حياتنا. ولذلك، أسميها «نخبة الأزمة». فبفضل الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، توفرت شروط ولادة هذه «النخبة الجديدة» التي التقت في «عالم افتراضي»، وأجرت حوارات افتراضية، قبل أن تلتقي في «عالم واقعي» أصبح «ميدان التحرير» بمصر يرمز إليه، اسما ومسمى. فتحول حوارها إلى حوار واقعي، وبدأت تتحول إلى تنظيمات واقعية.

إن أخطر ما في الأزمة العميقة والمركبة والشاملة، التي ظلت تعيشها منطقتنا، ومنها بلدنا، هي الأزمة التي أصابت النخبة. فهي التي ساهمت، في رأيي، في تكريس الأزمة الشاملة، بل سمحت لها بالاتساع والانتشار. ولذلك، فالمهمة التي تنتظرها، اليوم وما بعد اليوم، مهمة مضاعفة: من جهة، الخروج من الأزمة وإعادة البناء. ومن جهة أخرى، إبداع آليات لحماية وتحصين هذه النخبة التي تولدت من رحم الأزمة، حتى لا تَسرق «الثورة» أو تُسرق منها.

والمغرب نموذج حي ومعبر للبلاد التي خسرت نخبتها وهي تسعى إلى التحول الديمقراطي. فلا هو حقق التحول أو التغيير أو الانتقال، ولا هو احتفظ بنخبته التي تحولت وتغيرت، فتحقق انتقالها، بينما لم ينتقل المجتمع.


سأقدم، هنا، مثالين لتأكيد ما أقول. الأول من السبعينيات، والثاني من التسعينيات. والتاريخ، في النهاية، هو الحكم.
وأنا أورد السبعينيات، لأن الوعي بضرورة التحول في المغرب لم ينطلق في منتصف التسعينيات، كما يعتقد البعض أو كما يريد أن يوحي بذلك البعض الآخر، بل إنه انطلق، أول مرة، في منتصف السبعينيات، وكان الشعار الذي أطر تلك المرحلة هو شعار «استراتيجية النضال الديمقراطي»، الذي شكل عنوان تجربة سياسية قادتها نخبة سياسية، من خلال حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وتبنت مضمونه أغلب القوى السياسية الديمقراطية التي شاركت في ما كان يسمى بـ«المسلسل الديمقراطي».

كان هدف تلك النخبة من ذلك المسلسل هو العمل على تغيير البنيات السياسية من الداخل، في أفق دمقرطتها. لقد كان هناك موقف رافض لهذه البنيات، ولكن في المقابل كان هناك وعي بعدم القدرة على تغييرها إلا من داخلها، خاصة أمام فشل محاولات التغيير من الخارج، عبر «العمل المسلح» أو عبر «الانقلاب العسكري». وهذا الاختيار يؤكد أن نخبة السبعينيات آمنت بالتغيير التدريجي، لما انخرطت في المسلسل الديمقراطي. ولذلك، لم يعد العقل يقبل أن يظل البعض لمدة تفوق 36 سنة، يردد، في وجه من يطالب بالتغيير، أن العملية يجب أن تتم بشكل «تدريجي». فهل يتطلب هذا «التدريج» قرونا؟!
وفي المقابل، كانت هناك إرادة رسمية تسعى، ليس إلى التغيير، ولكن إلى إدماج «النخبة الديمقراطية» في النظام، وبالتدريج أيضا، في اتجاه مخزنتها.

ولم يعد خافيا أن «مشروع المخزنة» انتصر، في النهاية، على «مشروع الدمقرطة». فقد استوعب النظام جزءا كبيرا من «النخبة الديمقراطية» ونجح في إدماجها في بنياته المخزنية.

ستتحول النخبة، دون أن تنجح في تحويل النظام. وسيتحول عدد منها إلى أداة لتطبيق مشاريع النظام وبرامجه السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

لقد ربح النظام عقدا ونصف. لكنه لم ينجح في إجلاء الأزمة. لقد ظل يواجه أزمة المجتمع، وكذا أزمته الخاصة.
وفي بداية التسعينيات، سيضطر إلى الاعتراف بالأزمة، عندما تحدث الملك الراحل الحسن الثاني عن «السكتة القلبية» التي قال إن المغرب مهدد بها، بل إنه ترجى المعارضة إلى المشاركة في الحكومة، وأعلن رغبته وإرادته في تحقيق «الانتقال الديمقراطي».

مرة أخرى، ستتحمس أغلبية النخبة لهذا العرض الملكي، وستنخرط بكل حماسة، من أجل «الانتقال الديمقراطي». وفي هذه المرة أيضا، كان هناك وعي لدى النخبة بأن الشروط الدستورية لا تسمح بتحقيق الانتقال. ولكنها مع ذلك أصرت على دخول «المغامرة» بدعوى «إنقاذ البلاد» من «السكتة القلبية».

وكلنا، نحن الذين عايشنا ذلك النقاش وانخرطنا فيه، نتذكر كيف أن زعيم «نخبة التسعينيات» دافع عن عدم الانشغال بالنص، بدعوى أن النص لا يهم في مثل هذه التحولات، وإنما الذي يهم هي الإرادة السياسية المعلن عنها. وكشف، في ما بعد، أن ضمانته هي الملك نفسه والقسم الذي أدياه معا على القرآن. لكن الواقع سيؤكد له أن النص في السياسة مهم. كان الأوان حينها قد فات!

والنتيجة، التي لا يمكن لأحد اليوم أن ينكرها، هي فشل تلك المغامرة. فـ”حكومة التناوب” فشلت في تحقيق الانتقال الديمقراطي. وبعد ذلك، بدأت ملامح التراجع تهيمن إلى أن توقف الانتقال عن السير. فلا نحن نعيش زمن الانتقال، ولا نحن نعيش زمن ما بعد الانتقال، ولا نحن نعيش زمن ما قبل الانتقال. وهذا أخطر وضع يمكن أن تعيشه بلاد. إنه وضع عصي على الوصف.

والنتيجة المترتبة عن النتيجة الأولى هي أننا ضِعْنَا مرة أخرى في نخبتنا التي كانت مؤهلة لقيادة البلاد في منتصف التسعينيات، مثلما ضِعنا، قبل ذلك، في نخبة السبعينيات. ولذلك، فإن المغرب ليس فقط «بلد الفرص الضائعة»، بل هو أيضا «بلد النخب الضائعة».

النخبة المغربية فشلت، إلى حد الآن، في التغيير وفي تحقيق الانتقال الديمقراطي. والحقيقة أن التصالح في المغرب بين المعارضة والنظام لم يكن في صالح المجتمع، بل كان في صالح بعض النخب، ماديا ومعنويا. لقد دعم شرعية النظام ومنح لبعض النخب نفوذا، وإن كان نفوذا «محروسا»، من خلال امتيازات سياسية ومادية.

إن بعض مظاهر التحول التي يمكن أن نلاحظها على النظام، على مستوى الخطاب واللغة (المجتمع الحداثي الديمقراطي، المفهوم الجديد للسلطة…)، نجحت في أن تروض النخبة، بينما النظام حافظ على جوهره، حيث لم نبرح نظام الملكية شبه المطلقة، التي يسود فيها الملك ويحكم.

وإذا كان النظام قد نجح في أن يحتوي الأشخاص، فإنه لم ينجح في احتواء التيارات (سواء السياسية منها أو الفكرية). فالاحتواء مورس على الأشخاص (وعلى أشخاص بعينهم) وليس على التيارات. وهذا ما يفسر أن النظام يظل دائما يجري وراء الملتحقين الجدد بالنخبة، حيث يرمي بالقدامى. بعد أن يكون قد قضى وطره منهم. وهو ما يجعلني أعتبر أن الهزيمة التي تكبدتها النخبة في المغرب أصابت الأشخاص ولم تصب التيارات. فالأفكار لا يمكن احتواؤها أو تدجينها.

ولعل هذا الوعي الذي يحمله الشباب المغربي، اليوم، سواء في حواراته ومناقشاته على المواقع التفاعلية، أو في شعاراته ولافتاته التي حملها في الشارع العام يوم 20 فبراير، يعبر عن استمرار وجود التيار الفكري الذي لا يقبل التحايل على الديمقراطية. فشباب الفيسبوك، الذين دعوا إلى مظاهرات 20 فبراير ونجحوا في تنظيمها في مختلف ربوع البلاد، يحملون نفس الأفكار التي حملها سابقوهم: إنهم يريدون التغيير والديمقراطية والحرية والكرامة… فقط هم استعملوا أدوات جديدة في الاتصال والتواصل والتفاعل، وينتمون إلى زمن آخر منفتح على العالم ولا يعترف بالحدود المغلقة.

إن نخبة جديدة قادمة. وعلى المجتمع أن يتفاعل معها. أما احتواؤها، فهي استراتيجية لم يعد بالإمكان، اليوم، أن يحالفها النجاح.

25 فبراير 2011

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى