حول العالمميديا و أونلاين

المداميك المُتقلِّبة للإسلام السياسي في الجزائر… وتراجع فعلي لشعبيته (الحلقة الأولى)

دالية غانم باحثة مقيمة في مركز كارنيغي للشرق الأوسط. تتمحْور أبحاثها حول العنف والتطرّف السياسيين، والتعصّب، والإسلاموية، والجهادية، مع تركيز خاص على الجزائر وعلى انخراط النساء في التنظيمات الجهادية.

إن مختلف المجموعات الإسلامية في الجزائر، ومن ضمنها الميليشيات والفصائل المعتدلة والشبكات الشعبية، توفّر منبراً لاستقراء المستقبل الاجتماعي السياسي المُلتبس في البلاد.

بدءاً من فبراير 2019، تدفق آلاف، ثم لاحقاً ملايين، الجزائريين للأعراب عن سخطهم على رئيسهم المريض عبد العزيز بوتفليقة (82 سنة)، الذي سعى إلى التربُّع على سدّة ولاية خامسة.

وبعد أسابيع صاخبة من الاحتجاجات السلمية والمنظّمة، استقال الرئيس المُخضرم في أبريل قبيل إجراء الانتخابات الجديدة المُقررة.

وفيما تتوالى “معركة الجزائر” هذه فصولاً، عَمَدَ بعض المراقبين الجزائريين والأوروبيين إلى التحذير من أن الإسلاميين قد يحاولون التسلُّل إلى حركة الاحتجاج.1 كان هؤلاء يخشون من أن الإسلاميين قد يعيدون الكرّة لإنتاج الظروف التي سادت خلال التسعينيات، حين استغلّت الجبهة الإسلامية للإنقاذ الانفتاح الديمقراطي في البلاد العام 1989 للدعوة إلى إقامة دولة إسلامية. وما لبث العنف الجهادي أن انفجر، بعد أن علّق الجيش العملية الانتخابية في 1991، وانحدرت الجزائر إلى أتون حرب أهلية مديدة (1991-2001.)

 

بيد أن هذه المخاوف المُتجددة لا تأخذ في الاعتبار التغييرات الاجتماعية- السياسية العميقة التي شهدتها البلاد منذ أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، خاصة منها إرث النزاع، والصدمة التي تمخضت عنه، والتحوّل الذي طرأ على الحركة الإسلامية الجزائرية منذ ذلك الحين. ثم أن الإسلاميين ليس لهم عملياً دور في التعبئة التاريخية التي هزّت النظام الجزائري خلال الشهرين الأخيرين، ولم تنضم الأحزاب الإسلامية إلى الحراك الشعبي إلا في وقت لاحق ومتأخر. ومنذ الأسبوع الثاني من المظاهرات، دأب المواطنون على الدعوة في وسائط التواصل الاجتماعي إلى الاحتراس من “اختطاف” هذا الحراك، خاصة من جانب الإسلاميين.

والحال أن المجتمع الجزائري أصيب بجراح عميقة لماّ تندمل بعد، جراء أعصار العنف الذي خلفته وراءها جبهة الإنقاذ في حقبة التسعينيات. لكن اليوم، كما قال أحد المحتجين، “تلقّحنا ضد جبهة الإنقاذ وضد مغالاتها وتجاوزاتها”.

نجحت الحكومة الجزائرية، في أعقاب الحرب الأهلية، في تحييد التجليات الجهادية الأكثر تطرفاً في الإسلام، عبر مزيج من المقاربات الناعمة والخشنة، زاوج بين الوجود العسكري القوي على الأرض والقتال ضد الجماعات المسلحة، وبين إجراءات تصالحية تستهدف نزع سلاح المتطرفين السابقين، وتسريحهم، وإعادة دمجهم في المجتمع.

صحيح أن الحكومة حقّقت تقدّماً، إلا أنه من المبالغة القول أن صفحة الإسلام السياسي في الجزائر طويت وانقضى الأمر. لا شك أنه تم بالفعل إعادة تأهيل آلاف الجهاديين السابقين، وأن النشاط الجهادي انحسر على نحو ملموس وتراجع معه عدد ضحايا الهجمات الإرهابية، إلا أن مخاطر الجهاد العنفي لم تتبدّد تماما.4 فالهجمات من قبل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين وفروعهما، لم تزل إمكانية واردة.

وعلى رغم أن معظم الجزائريين يدينون عنف هذه الجماعات الجهادية ولا يدعمونها، إلا أنه مع استمرار ابتلاء البلاد بقضايا الإقصاء السياسي، والتهميش الاقتصادي واللامساواة الاجتماعية، والقمع، ونوبات العنف، سيكون هناك بعض الناس الذين سيرتكبون خطأ الوقوع في إغراءات النزعة الجهادية واعتناق أفكارها.

 

جدير بالذكر هنا أن نفوذ السياسيين الإسلاميين في الجزائر وَهَنَ، كما دلّ على ذلك بوضوح عداء المواطنين العاديين لممثلي الإسلام السياسي المعتدل. على سبيل المثال، أبعد المتظاهرون خلال الاحتجاجات الأخيرة عبد الله جاب الله، وهو قائد إسلامي مخضرم يرأس الآن حزب جبهة العدالة والتنمية الإسلامي، وهم يهتفون “Degage” (أي “اخرج”) كما جرى على نحو مماثل تهميش عبد الرزاق مقري، الذي يقود الحزب الإسلامي الرئيس في الجزائر (حركة مجتمع السلم) حين جوبه بلامبالاة الرأي العام. ويشي فقدان هاتين الشخصيتين القياديتين للشعبية بأن الأحزاب الإسلامية تفتقد بالفعل إلى المصداقية، والشرعية، والمساندة الشعبية.

نجحت الحكومة الجزائرية، بمعنى ما، عبر سماحها للأحزاب الإسلامية بخوض غمار السياسات البرلمانية وحتى الاشتراك في الإئتلافات الحكومية، في نزع فتيل التجسدات المعتدلة للإسلام السياسي. كانت مقاربة المشاركة التي انتهجها الإسلاميون المعتدلون منذ العام 1995 قد مكّنتهم من الحفاظ على البقاء وسمحت لهم بتوفير الكفاءة المهنية لكوادرهم. بيد أن هذه المشاركة السياسية مكّنت النظام أيضاً من استتباع هؤلاء وإفقاد المُعتدلين منهم شرعيتهم في أعين الرأي العام، وإعاقة قدرتهم على اجتذاب الناخبين.

والآن، قلة من الجزائريين تصدّق سمعة الطهارة الدينية التي حاول الإسلاميون إسباغها على أنفسهم، أو الطوباوية الروحانية التي يَعدون بها. وبالتالي، من غير المحتمل أن تستعيد الأحزاب الإسلامية المصداقية في المستقبل القريب، أو أن يكون لها دور بارز في الحركة الشعبية التي أجبرت بوتفليقة على الاستقالة. الأرجح، بدلاً من ذلك، أن تواصل هذه الأحزاب المُستلحقة قبول قواعد اللعبة، مقابل أن يكون لها مقعد في عملية الانتقال التي يُشرف عليها الجيش.

صحيح أن استلحاق السياسيين الإسلاميين المُعتدلين عنى أنهم لم يعودوا يُشكلون تحدياً حقيقياً للنظام، إلا أن ثمة تمظهرات قاعدية أخرى للإسلام السياسي، على غرار “الدعوة السلفية”، بدأت تضرب جذورها في المجتمع. الدعوة السلفية هي شكل من السلفية الأكثر هدوءاً التي لا تنخرط، كحركة، في العمل السياسي جهاراً، ولا تهدف إلى إطاحة الحكم. لكن، على رغم سمعتها بأنها تدير ظهرها للسياسة، إلا أن العديد من أعضائها لهم آراء سياسية قوية ويعلّقون بكثافة على الأحداث السياسية. ولذا، ومع أن الدعوة السلفية لا تنغمس مباشرة في النشاطات السياسية، يساهم شيوخ الجماعة في الخطاب حول السياسات الوطنية والدولية. وكان الباحث جاكوب أوليدورت موفّقاً حين لاحظ أن “صمت الهادئين هو الفضاء الذي يُسمع فيه الصوت الإسلامي للناشطين السلفيين. أعمالهم السياسية هادئة، لكن صوتهم السياسي مُلعلع”.

فيما تُعرض الدعوة السلفية عن المشاركة الرسمية في العمل السياسي، إلا أنها أصبحت الآن الحركة الإسلامية المُجتمعية الرئيسة في الجزائر ونفوذها يتنامى باطراد. فالجزائريون يُجددون السياسات الإسلامية من القاعدة إلى القمة. وفيما يدرك الإسلاميون في البلاد أن تأسيس خلافة إسلامية في الجزائر هو أمر بعيد المنال، لا زالوا غير مُستعدين لتنحية هدف أسلمة المجتمع ككل جانباً، أو تبني توجهات تعددية في الفضاء العام. وحتى أبريل 2019، لم تكن الدولة الجزائرية قد حيّدت تماماً تحدي الإسلام السياسي، وهي تعترف بأن الإسلاميين لا زالوا جزءاً من المشهد الاجتماعي – السياسي، وسيبقون كذلك في المستقبل المنظور.

الآن، يؤدي التفكّر بالكيفية التي تعاطت فيها الحكومة الجزائرية مع الإسلام السياسي في الماضي، إلى فتح نافذة مهمة نُطل منها لاستقراء المسار الذي قد ينتهجه النظام ومختلف الجماعات الإسلامية في المرحلة التالية من هذا المشهد السياسي المُلتبس.

بدءاً من فبراير 2019، تدفق آلاف، ثم لاحقاً ملايين، الجزائريين للأعراب عن سخطهم على رئيسهم المريض عبد العزيز بوتفليقة (82 سنة)، الذي سعى إلى التربُّع على سدّة ولاية خامسة.

وبعد أسابيع صاخبة من الاحتجاجات السلمية والمنظّمة، استقال الرئيس المُخضرم في أبريل قبيل إجراء الانتخابات الجديدة المُقررة.

وفيما تتوالى “معركة الجزائر” هذه فصولاً، عَمَدَ بعض المراقبين الجزائريين والأوروبيين إلى التحذير من أن الإسلاميين قد يحاولون التسلُّل إلى حركة الاحتجاج.1 كان هؤلاء يخشون من أن الإسلاميين قد يعيدون الكرّة لإنتاج الظروف التي سادت خلال التسعينيات، حين استغلّت الجبهة الإسلامية للإنقاذ الانفتاح الديمقراطي في البلاد العام 1989 للدعوة إلى إقامة دولة إسلامية. وما لبث العنف الجهادي أن انفجر، بعد أن علّق الجيش العملية الانتخابية في 1991، وانحدرت الجزائر إلى أتون حرب أهلية مديدة (1991-2001.)

بيد أن هذه المخاوف المُتجددة لا تأخذ في الاعتبار التغييرات الاجتماعية- السياسية العميقة التي شهدتها البلاد منذ أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، خاصة منها إرث النزاع، والصدمة التي تمخضت عنه، والتحوّل الذي طرأ على الحركة الإسلامية الجزائرية منذ ذلك الحين. ثم أن الإسلاميين ليس لهم عملياً دور في التعبئة التاريخية التي هزّت النظام الجزائري خلال الشهرين الأخيرين، ولم تنضم الأحزاب الإسلامية إلى الحراك الشعبي إلا في وقت لاحق ومتأخر. ومنذ الأسبوع الثاني من المظاهرات، دأب المواطنون على الدعوة في وسائط التواصل الاجتماعي إلى الاحتراس من “اختطاف” هذا الحراك، خاصة من جانب الإسلاميين.

والحال أن المجتمع الجزائري أصيب بجراح عميقة لماّ تندمل بعد، جراء أعصار العنف الذي خلفته وراءها جبهة الإنقاذ في حقبة التسعينيات. لكن اليوم، كما قال أحد المحتجين، “تلقّحنا ضد جبهة الإنقاذ وضد مغالاتها وتجاوزاتها”.

نجحت الحكومة الجزائرية، في أعقاب الحرب الأهلية، في تحييد التجليات الجهادية الأكثر تطرفاً في الإسلام، عبر مزيج من المقاربات الناعمة والخشنة، زاوج بين الوجود العسكري القوي على الأرض والقتال ضد الجماعات المسلحة، وبين إجراءات تصالحية تستهدف نزع سلاح المتطرفين السابقين، وتسريحهم، وإعادة دمجهم في المجتمع.

صحيح أن الحكومة حقّقت تقدّماً، إلا أنه من المبالغة القول أن صفحة الإسلام السياسي في الجزائر طويت وانقضى الأمر. لا شك أنه تم بالفعل إعادة تأهيل آلاف الجهاديين السابقين، وأن النشاط الجهادي انحسر على نحو ملموس وتراجع معه عدد ضحايا الهجمات الإرهابية، إلا أن مخاطر الجهاد العنفي لم تتبدّد تماما.4 فالهجمات من قبل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين وفروعهما، لم تزل إمكانية واردة.

وعلى رغم أن معظم الجزائريين يدينون عنف هذه الجماعات الجهادية ولا يدعمونها، إلا أنه مع استمرار ابتلاء البلاد بقضايا الإقصاء السياسي، والتهميش الاقتصادي واللامساواة الاجتماعية، والقمع، ونوبات العنف، سيكون هناك بعض الناس الذين سيرتكبون خطأ الوقوع في إغراءات النزعة الجهادية واعتناق أفكارها.

جدير بالذكر هنا أن نفوذ السياسيين الإسلاميين في الجزائر وَهَنَ، كما دلّ على ذلك بوضوح عداء المواطنين العاديين لممثلي الإسلام السياسي المعتدل. على سبيل المثال، أبعد المتظاهرون خلال الاحتجاجات الأخيرة عبد الله جاب الله، وهو قائد إسلامي مخضرم يرأس الآن حزب جبهة العدالة والتنمية الإسلامي، وهم يهتفون “Degage” (أي “اخرج”) كما جرى على نحو مماثل تهميش عبد الرزاق مقري، الذي يقود الحزب الإسلامي الرئيس في الجزائر (حركة مجتمع السلم) حين جوبه بلامبالاة الرأي العام. ويشي فقدان هاتين الشخصيتين القياديتين للشعبية بأن الأحزاب الإسلامية تفتقد بالفعل إلى المصداقية، والشرعية، والمساندة الشعبية.

نجحت الحكومة الجزائرية، بمعنى ما، عبر سماحها للأحزاب الإسلامية بخوض غمار السياسات البرلمانية وحتى الاشتراك في الإئتلافات الحكومية، في نزع فتيل التجسدات المعتدلة للإسلام السياسي. كانت مقاربة المشاركة التي انتهجها الإسلاميون المعتدلون منذ العام 1995 قد مكّنتهم من الحفاظ على البقاء وسمحت لهم بتوفير الكفاءة المهنية لكوادرهم. بيد أن هذه المشاركة السياسية مكّنت النظام أيضاً من استتباع هؤلاء وإفقاد المُعتدلين منهم شرعيتهم في أعين الرأي العام، وإعاقة قدرتهم على اجتذاب الناخبين.

والآن، قلة من الجزائريين تصدّق سمعة الطهارة الدينية التي حاول الإسلاميون إسباغها على أنفسهم، أو الطوباوية الروحانية التي يَعدون بها. وبالتالي، من غير المحتمل أن تستعيد الأحزاب الإسلامية المصداقية في المستقبل القريب، أو أن يكون لها دور بارز في الحركة الشعبية التي أجبرت بوتفليقة على الاستقالة. الأرجح، بدلاً من ذلك، أن تواصل هذه الأحزاب المُستلحقة قبول قواعد اللعبة، مقابل أن يكون لها مقعد في عملية الانتقال التي يُشرف عليها الجيش.

صحيح أن استلحاق السياسيين الإسلاميين المُعتدلين عنى أنهم لم يعودوا يُشكلون تحدياً حقيقياً للنظام، إلا أن ثمة تمظهرات قاعدية أخرى للإسلام السياسي، على غرار “الدعوة السلفية”، بدأت تضرب جذورها في المجتمع. الدعوة السلفية هي شكل من السلفية الأكثر هدوءاً التي لا تنخرط، كحركة، في العمل السياسي جهاراً، ولا تهدف إلى إطاحة الحكم. لكن، على رغم سمعتها بأنها تدير ظهرها للسياسة، إلا أن العديد من أعضائها لهم آراء سياسية قوية ويعلّقون بكثافة على الأحداث السياسية. ولذا، ومع أن الدعوة السلفية لا تنغمس مباشرة في النشاطات السياسية، يساهم شيوخ الجماعة في الخطاب حول السياسات الوطنية والدولية. وكان الباحث جاكوب أوليدورت موفّقاً حين لاحظ أن “صمت الهادئين هو الفضاء الذي يُسمع فيه الصوت الإسلامي للناشطين السلفيين. أعمالهم السياسية هادئة، لكن صوتهم السياسي مُلعلع”.

فيما تُعرض الدعوة السلفية عن المشاركة الرسمية في العمل السياسي، إلا أنها أصبحت الآن الحركة الإسلامية المُجتمعية الرئيسة في الجزائر ونفوذها يتنامى باطراد. فالجزائريون يُجددون السياسات الإسلامية من القاعدة إلى القمة. وفيما يدرك الإسلاميون في البلاد أن تأسيس خلافة إسلامية في الجزائر هو أمر بعيد المنال، لا زالوا غير مُستعدين لتنحية هدف أسلمة المجتمع ككل جانباً، أو تبني توجهات تعددية في الفضاء العام. وحتى أبريل 2019، لم تكن الدولة الجزائرية قد حيّدت تماماً تحدي الإسلام السياسي، وهي تعترف بأن الإسلاميين لا زالوا جزءاً من المشهد الاجتماعي – السياسي، وسيبقون كذلك في المستقبل المنظور.

الآن، يؤدي التفكّر بالكيفية التي تعاطت فيها الحكومة الجزائرية مع الإسلام السياسي في الماضي، إلى فتح نافذة مهمة نُطل منها لاستقراء المسار الذي قد ينتهجه النظام ومختلف الجماعات الإسلامية في المرحلة التالية من هذا المشهد السياسي المُلتبس.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى