ثقافة وفنونرأي/ كرونيك

” قبل ثلاثين سنة من الآن” لذكرى عبد الرحيم تفنوت … بلالي اليزيد وباقي الأحبة

جمال الدين حريفي

أما عبد الرحيم تفنوت، إن جاز لي أن أخصه بالذكر ، وقد عاشرته وخبرت معدنه لمدة ليست بالقصيرة، فقد كان واسع الثقافة، حاضر البديهة، سريع الرد، شديد اللهجة، قوي الحجة، وصاحب قدرة هائلة على بسط الأفكار وعلى التواصل والتناظر والحوار، ومد الجسور وتأليف القلوب، إضافة إلى خصال إنسانية كثيرة، ليس أقلها طيبة القلب وصفاء المودة، دون أن أنسى ميله إلى المرح حتى في أكثر الأوقات جدية أو حرجا، فقد كان صاحب نكتة، وبسمة لا تفارق الشفتين، ومستملحات بليغة الأثر، وإن كان من عنوان كتاب يليق بوصفه، فهو “المعرفة المرحة”، لنيتشه ــــــــ أقصد العنوان ــــــــ إذ كان فأر كتب بامتياز، يلتهمها حيث وجدها، حتى إني لأعتبر أن المعرفة والفكر هما ما يؤمن به الرجل ويعيش لأجله، قبل أي شيء وبعد كل شيء، النظر والعمل، على منهج السلف الأولين الذين درس أفكارهم واعتقد فيها كما اعتقد فيها جيلنا واعتنقها ودافع عنها.

وقد تقاسمت مع عبد الرحيم في وقت غير هين شغف المناضلين بشعب المقاتلين والياسمين و حسرة الأرصفة التي بلا مودعين، تقاسمنا الفكرة وبيروت ودرويش، وتقاسمنا رفقة النضال والشعر والمعرفة، تقاسمنا فوق هذه الأرض ما يستحق الحياة، وعشنا الحياة ما استطعنا إليها سبيلا، كما جمعنا المسكن و المطعم والمقهى، وبيت أهله مدة غير يسيرة، وكذلك كان الأمر مع الكثير من طلبة الآداب والعلوم والحقوق والطب والإعلام والزراعة… إلخ، كانوا موسوعات متنقلة، لا تستطيع أن تفرق فيهم بين طلبة الآداب أو العلوم أو الطب أو الزراعة أو غيرها من التخصصات، فقد كانوا على ملة المعرفة جميعا، إذ يذهلك طلبة العلوم بحفظهم للأشعار، وطلبة الهندسة بغوصهم في عوالم التخيل، وطلبة الطب باستدعاء عناوين الروايات وأبطالها في مناقشاتهم، وطلبة الآداب بدرياتهم بما يقتضيه الفهم من كشوفات العلم، عدا عن أنهم كانوا في كلية الآداب خاصة متعددو الروافد، يحضرون لقسم الفلسفة وقسم التاريخ وقسم الأدب، سواء بسواء، ويناقش كل واحد منهم الآخر في تخصصه ويستفيد منه ويفيده.

هؤلاء هم طلبة ذلك الوقت، لم يكونوا لاعبين ولا مشاغبين ولا كسالى تستهويهم المتع الرخيصة، بل كانوا في الواسطة من عقد الرقي والحس الإنساني الرفيع، كانوا ممن يفضل شراء الكتاب على تحصيل لقمة الطعام أو اقتناء تذكرة السفر، وممن يؤجل حصته من النوم أو من الأكل أو الراحة من أجل حضور ندوة أو عرض مسرحي أو مشاهدة شريط، تحضرني أسماؤهم وحواراتهم وجلساتهم، و تكاد تبرز لي من بين الحروف الوجوه والمواقف والرجال والمبادئ، وحتى لو أردت تدوين كل ذلك التاريخ، أو أردت أن أخص كل واحد بما يستحقه من ذكر وثناء، فإن العبارة لن تسعف. ستظل أسماؤهم محفورة في القلب والوجدان، وستظل ذكراهم العطرة تتضوع في كل حرف سطرته أو كل مكان جمعنا ذات زمان، وهم ولا شك كلما فاضت أباريق حنينهم إلى ما فات سيتذكرون أسماءً وجداً وهزلاً ومستملحاتٍ ومواقف ومبادئ، وقد يبتسمون أو يتحسرون، أو ينظرون إلى المستقبل بغصة في الحلق بقيت عالقة من أشواك الماضي، أو أريج في الأنف بقي ساريا رغم الزمن من أزهاره وأحلامه، فقد كانت لذلك الماضي أشواك وأزهار وأحلام.

سأذكر ويذكرون الرفقة الطيبة والوفاء الجميل لذكرى بلالي اليزيد، رفيقي في السكن وفي بعض المحن، وفي شهوات الكلام، الفتى النحيل الزاهد في كل زخرف، والمشاغب الذي يلاعب الحياة بأناقة النبلاء، ويعرك معدنها بصبر المحاربين، وإدريس الغوزلاوي وعبد الكريم الهناوي وعبد الحق بنيس وعبد الحق شباضة وعبد اللطيف بن الصغير وأحمد الملياني و الصبان ورشيد وأحمد الإدريسي وعبد المجيد العوني وسميهرو و…. هناك إذن بين الأسماء عشت سعيدا بتلك الصداقات، سعيدا بتلك الأمكنة، هناك بين الأسماء و “بين المدن” سكنت، كما سكنت دائما بين عالمين.
أقول سكنت مجازا، لأنني لم أكن أبدا ساكنا إلا في بدني المهاجر بين الأمكنة والأسماء على الدوام…..
……………………………………………………..// مقتطف من ” وجع المنازل “………..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى