رأي/ كرونيك

مصطفى المنوزي يكتب: في الحاجة الى مفهوم جديد للتحديث السياسي

الحداثي الحي هو الذي يتعايش دوما مع وقائع الإنهيار كخير وسيلة لتفاديه ،وذلك باكتشاف ألاعيب الايديولوجيات المتسببة فيه ،والتصدي لقلاعها وتدمير هياكلها السلبية ،وبالاستناد الى منهج التفكيك كتمرد على كل المسارات ولو بدت في ظاهرها منطقية أو عقلانية ،وإلا سقط ضحية إرهاب فكري يقدس الإطلاقيات ويؤمن بالقوالب الجاهزة المانعة والكابحة لكل قطيعة معرفية من شأنها القضاء على مكامن الشر الذي توطنه بعض العقائد في صميم الناس باسم القضاء والقدر . فخلال مدة الولايتين اللتين تحملت فيهما مسؤولية رئاسة منتدى الحقيقة والإنصاف ، توفرت لي سبل وفرص التواصل والحوار والتفاوض مع عدد كبير من المسؤولين الحزبيين والبرلمانيين والأمنيين وكذا الرفاق والإخوان والمثقفين ، وخلصت إلى أن نسبة قليلة من إنخرط حقيقة في مسلسل ” العدالة الإنتقالية ” ، بل إن أحزابا بعينها فوضت الشأن الحقوقي لبعض مناضليها ، للتتبع والإجتهاد بصفة شخصية ، مما صعب مأمورية القطع مع ماضي الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ، ومع ذلك يمكن ان نعترف بأن هناك تيه يعتري بوصلة اليسار على الخصوص ، نتيجة التخلي عن آليات التقييم والتقويم ، بغض النظر عن تجاهل قوانين الصراع والتشخيص ، طبقا لقاعدة التحليل الملموس للواقع المحسوس ، غير أنه يمكن تسجيل واتباث حالة ان هناك شبه إجماع على انسداد الأفق بسبب انحسار التفكير وتسلط الدولة وسطوة الريع ، وبعلة هشاشة مشاريع التأطير وتنمية السياسة التبيلة ، هناك نزوع الى تقاسم هذا الإحساس العارم بسوداوية غريبة لم يشهدها الوطن ولو في عز سنوات الجمر ؛ لكن امام كل هذه المستنتجات المتسرعة لعدم ارتكازها على تشخيص حقيقي ومعمق حول الأسباب والدوافع والمسؤوليات ، مما يطرح اشكالية البدائل أو مقترحات البدائل ، وكل هذا يفضي بنا الى التمسك بنقط الضوء المتاحة ، قصد تحويل الارتكاس الى قوة مادية تنتج مادة الأمل والصمود ، لأن الفكر التقدمي مبتدؤه التفاؤل ومنتهاه التفاؤل ، ولأن الدولة ليست ذكية بما يكفي لكي تظل قوية بمصداقية ونزاهة مفقودتين ، فهي حقا أمنية لا آمنة ، هي مخيفة بدل أن تكون متماهية مع الوطن وقوية بالقانون والمؤسسات . وما دام الأغلب يقر بدور المؤسسة الملكية الحاسم والحاكم ، فليس الحكم او التحكيم سوى ممارسة ، في العلاقة مع صناعة كل انواع القرارات السيادية ، الدينية والسياسية والمالية والأمنية ، ولأنه ينبغي تكريس مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ، فقد حان الوقت لابراء الذمة تجاه الالتزامات والتعاقدات المهيكلة لمطلب القطع مع ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان ، كمدخل لولوج شوط البناء الدمقراطي ، هذا التحول الذي صار ضرورة تاريخية ، فلم يعد تنفع معه استراتيجيا التكيف والتنفيس وامتصاص الغضب والنقمة ، ورغم ان التقليدانية جزء من شروط استمرار النظام السياسي ، فالتحديث شر وقائي لا مناص منه ضد استغراق المد المحافظ لكل محاولات اللبرلة و الارهاصات الدمقراطية ، إن لم يكن منافسة غير متكافئة وغير مشروعة وانتهازية للملكية التنفيذية نفسها ، الشيء الذي يعيد الحاجة الى تحيين مطلب الملكية البرلمانية استنادا الى مشاركة كبيرة للمواطنين في تقرير المصير الحداثي بكل نزاهة وشفافية ، في زمن تقادمت فيه اشكال النضال والتأطير المجتمعي الكلاسيكية ، فقد نشطت أشكال التظاهر والتعبير خارج القنوات التنظيمية ، وكذا خارج الفضاء العام المفتوح على الشفافية ووضوح المسؤولية وغموض مصادر القرار ، مما يهدد بالعودة إلى السرية وإنفلات الغايات وإلتباس الأهداف ، وتماهي المسؤوليات وإنسداد الأفق ، وهو ما يؤشر على الحاجة الماسة إلى تجديد التعاقدات وإطلاق اوراش المراجعات ، على إثر التحولات الموضوعية السريعة ، وذلك من خلال بوابة صك الحقوق بدل هدر الزمن الإجتماعي والإنصياع العفوي لأدلوجة فصل السلط المغرضة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى