ثقافة وفنون

ثرثرة فوق جسر نهر الكورونا

عبدالرحيم التوراني

قابع بالبيت، معتكف، أوزع يومي بين النوم والاسترخاء والقيلولة والكسل، أحيانا أقوم بتصفح بعض الروايات والكتب التي لم أقرأها بعد، أفتح صفحة من كتاب وأغلق أخرى من كتاب. لا ألوي على شيء مما تطالعه عيناي. عقلي ليس معي.

فيما يبقى من وقت الليل أو النهار، أطل على العالم من نافذة الانترنت، الحمد لله على نعمة الانترنت على كل حال. أو أشهر في وجه العدو اللعين الريموت كنترول، أسدد سلاحي من كوة اعتكافي صوب أكثر من قناة تلفزيونية. أتابع أخبار انتصارات الفيروس المتلاحقة، صارت هي نفس الأخبار مستنسخة، بالنقطة والفاصلة واللكنة، ثرثرة فوق جسر نهر الكورونا، والنهر يجري إلى مصبه بلا تردد أو خوف.

***

أما أنا، فكبر خوفي، خائف مني، من هيأتي ومن ملامح وجهي، من ظلي، أحس أن ظهري احدودب، عيناي بدتا لي هذا الصباح كامدتين قليلا، أمشي حافيا وسط البيت، أحرك جسدي، أحرك يمناي ويسراي، وأخاف من راحة يدي أن تصفعني، تعتدي علي في عقر بيتي، تشد من خناقي، تخنقني، أدفعها، كيف تسهل اختراق العدو لحصني؟!

خائف من أن تقترب أصابع يدي من وجهي، عيني وفمي وأنفي. وكلها ثقوب ثغرات سهلة للتسلل والاختراق. أنظف يدي تنظيفا بالصابون والماء، أعقمها تعقيما بالمعقم، وأعيد، أكتم سعالي في الحلق، صارت عطستي موؤدة في الصدر، أراقب تنفسي ورئتي ودقات القلب. ويأخذني الشك والارتياب إلى مداه. أشك أني هو أنا بالذات والصفات، أم آخر غيري، واحد آخر من اختراعي.

أقف أمام المرآة طويلا، أفحص حمرة عيني. أنزع كمامتي، أرخيها مدلاة تحت الذقن. أووه.. لقد نسيت حلق ذقني، انتبهت إلى الشيب الذي يلمع في لحيتي، وكأني أراه لأول مرة، صارت لي لحية تشبه ذقن معمم من الكهان، أتذكر المهربين الدينيين، صرح واحد من كبارهم عندنا أن كورونا “من جنود الله”. أغضب وأبتسم في آن. لا أخشى على هزيمة الجبار أمام مخلوق صغير من مخلوقاته الضعيفة في مختبر صيني أو أوروبي أو أمريكي. ولا مختبر علمي ترجى شفاعته في بلاد النفط والقحط والشفط والضغط.

***
رن الهاتف واتصل بي قريب، أنقذني من وحدتي من وساوسي وكلامي مع نفسي. قريب من كندا في القارة البعيدة، عبر الوتساب نتكلم، يراني وأراه، طمأنني: “كل الجالية هنا بخير”، أتساءل في سري من المجلي فينا من المُهاجِر المُهَجَّر؟ أطمئنه على أفراد العائلة: “كلنا هنا بخير”. يخبرني أن جوستن ترودو، رئيس الوزراء لديهم، التزم بوقوف الدولة مع الشعب في هذه المحنة غير المسبوقة، وأنه أعلن عن حزمة مساعدات لمواجهة تداعيات كورونا اقتصاديا، منها إعفاء المستأجرين من دفع الإيجار، وتعويضات مادية أخرى.

أخبرته أني تابعت ذلك على المواقع والفيس بوك. ثم أفدته أننا هنا، من كرم حكوتنا الموقرة ملزمون بدفع ثمن أكفاننا وقبورنا قبل موتنا بفيروس. وأن حكومتنا أيضا تقف مع الشعب، تقف مذهولة فاغرة فمها، وقد بانت أسنانها وأنيابها الناتئة المفترسة، ولأنها منا ونحن منها، أي مثلنا، فهي لا تعرف ما تقدم أو ما تؤخر، وأن جوستن ترودو (نا)، رئيس الوزراء لدينا، يستحي تمام الحياء أن يقوم بإصدار قرار يمنع التجمعات، في المقاهي والحانات، فهي المجالس الشعبية الديمقراطية التي تطرح فيها قضايا الشعب، ويخشى اقتراف الإثم إذا تجرأ ومنع تجمعات المؤمنين في المساجد.

فالمساجد هي المختبرات الوحيدة التي يمكن لعلمائنا الأجلاء اللجوء إليها لاختراع الدعاء المعالج من كورونا بإذنه تعالى. من يدري.. فقد نقوم بتصديره إلى البلدان الإسلامية.

صمت قريبي وبدت عليه علامات الخوف، فبادرت وطمأنته أنه يمكن لكندا وغيرها، أن تكون مشمولة بالقرار، فكل أرض بها من يوحد الله ويعلي كلمته يحق لها أن تستفيد. ولما لمست ارتياحه، أوضحت له أنها مجرد فتوى، سيدافع عنها بعض علمائنا من المتنورين، أكدت له قائلا: أنا لا أضمن لك ترجمة هذه الفتوى على الأرض. ما دام فيروس كورونا لا يبقى في مجرى الهواء، بل يسقط أرضا، وبذلك يجد فرصته للانتقال عبر الأحذية. من هنا منع التجول في الشوارع.

تمنى لي قريبي السلامة، شكرته وتمنيت لي أيضا السلامة، فلو كنت مثله في كندا، ما كنت مضطرا لاختراع شخص شبيه لي ينتهز فرصة اعتكافي بالبيت لينفرد بي ويقهرني بالوساوس. كنت أتمنى أن أكون من سكان كندا، ليس من أجل الاستفادة من عطاءات الدولة الكندية ومنح المسمى جوستن ترودو، وأطماعه السياسية على حسابي، بل من أجل أن لا أظل هنا أحسب أعداد المصابين بالكورونا، من كوفيد 19 إلى كوفيد 20 و21 حتى النهاية، هذا إذا لم أتحول أنا أيضا إلى رقم من الأرقام، رقم يحظى بالذكر ضمن إحصائيات ضحايا كورونا، وكورونا من أمثالنا بريئة براءة مختبراتنا من علاج كورونا.

مع استمرار حالة الطوارىء، سيزيد خوف الحكومة، حكومتنا طبعا، وقد يتحول الشعب كله إلى كورونا واعية فاتكة فتاكة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى