والسؤال : ما الذي سيتغير بعد الجائحة؟ …
من السابق لاوانه، وفي حمى الازمة وحالة القلق والخوف التي ترافقها، الحديث عن الاتي او بلورة توقعات، لان الغموض يظل سيد الميدان الى ان تنجلي ويتم تقييم الاثار والتبعات بشكل منهجي وعلمي وليس بالارتسامات والتهيؤات والعواطف الجياشة، والا تم السقوط في نوع من الشعودة الفكرية والسياسية التي يمجها العقل وتنبذها العقلانية.
ان القول الرائج مثلا، والمبني على اساسات ايديولوجية وليس على معرفة ودراسة موضوعية، حول انقلاب موازين القوى عالميا وانتقال الصين الى المكان الذي ظلت الولايات المتحدة تحتله مند نهاية القرن التاسع عشر، باعتبارها القوة الاقتصادية العالمية الاولى، واصبح بارزا سياسيا وعسكريا ايضا بعد الحرب العالمية الثانية، قول لا يقوم على اساس متين. ذلك ان الولايات المتحدة تتوفر على الكثير من الامتيازات المقارنة التجعلها قادرة على الحفاظ على الصدارة الاقتصادية عالميا، ومنها البحث العلمي والسبق التكنولوجي والقدرات الانتاجية والدولاروالثقافة واللغة/
وعلى الاستمرار في وضع الفاعل السياسي والعسكري الدولي الاول، هذا بينما تبقى الصين دولة صاعدة ذات امتيازات مقارنة كثيرة ايضا، يدخل ضمنها البحث العلمي والتكنولوجيا والقدرات الانتاجية والموقع في اطار سلسلة القيمة عالميا والسوق الصينية وغير ذلك، لكن امكنيات الصين المتطورة باستمرار لم تتجاوز الولايات المتحدة بعد على جميع الاصعدة، واختيارات الصين تبتعد ايديولوجيا عن تلك التي تبتها الولايات المتحدة وحولها المنظومة الغربية، اذ لا تبدي رغبة في ان تكون قوة عظمى على النمط الغربي، اي قوة امبريالية، وهي تعرف ان ذلك غير ممكن وتعوقه عوائق لها صلة بالتاريخ والجغرافية السياسية والجيو بولتيك كما تم ترسيخها والمؤسسات الدولية كما تمت صياغتها ولها ايضا صلة بالثقافة واللغة وغير ذلك.
فالصين تعمل على تطوير امكانيات اقتصادها، بما في ذلك بتحسين حصتها من السوق العالمية في الوقت الحالي، واعية ان الدول الصاعدة الاخرى تسعى لنفس الشئ وان موقعها في سلسلة القيمة عالميا مؤثر لكنه قد يتحول الى مصدر هشاشة اقتصادية.
واذا كانت الولايات المتحدة بنيوليبراليتها الغالبة حاليا، والتي تتجه نحو التغير كما يظهر ذلك السباق الانتخابي خلال العشر سنوات الاخيرة والذي مثل خلاله انتخاب ترامب حادثة طريق، قد انتهت وصلت الى النهاية كنموذج، وجاءت كورونا لتضع نقطة النهاية، بحيث، وكما قال جوزيف ستيغلتز، يتبين ان النموذج الذي قام مند الفترة الريغانية قد اظهر فشله وصار مشكلة ولا يمكن ان يكون حلا، اذا كان ذلك صحيحا، فان الصين لايمكن ان تكون نموذجا و لم تعد تطرح نفسها نموذجا مند ابتعادها عن الماوية واعتمادها البراغماتية نهجا، والصين تعرف ايضا ان نجاح نموذجها له صلة بثقافة الشعب الصيني مند قرون من الزمن، وهي تولي للخصوصية الثقافية اهمية كبرى كما تبين ذلك في المؤتمر الاسيوي ببانكوك بتايلاند سنة 1993، عشية انعقاد مؤتمر فيينا لحقوق الانسان، وبعده، وان كان هذا لاينفي ان الصين شرعت في عدد من الاصلاحات التي ادخلت عددا من َمعايير دولة القانون بموازاة اعتماد نظامين اقتصاديين والانخراط في منظمة التجارة العالمية مند عقود، وهو ما يقوم الغرب بالتعتيم عليه.
ان ما يمر به العالم اليوم، قبل جائحة كورونا، وما ستسرعه الجائحة هو حصول تحول كبير في العالم، بنماذجه المختلفة التي وصلت كلها الى استنفاذ قدرتها على الاستمرار كما هي، في ظل اعادة انتشار الثروة عالميا، الذي يعني دخول دول جديدة الى دائرة الغنى دون انحطاط الاغنياء القدامى كما يروج، وهذا التحول الذي سيستمر لمدة طويلة لن يحدث بالتاكيد انقلابا دراماتيكيا في ميزان القوى العالمي، وان كان الصعود الصيني سريعا، لكنه سيجعل امورا كثيرة تتغير.
فاذا كانت كورونا قد اعادت للدولة موقعها كفاعل لاغنى عنه، وستعود معها السياسة من دون شك، وجعلت النيوليبرالية تواجه حدودها وتسقط في امتحان الدفاع عن الحياة، فانها ايضا طرحت اشكاليات تخص استتباعاتها، ومنها ايديولوجية التبادل الحر التي قامت على قاعدتها العولمة. ذلك ان التبادل العالمي لايمكن ان يتوقف، وربما يشهد تطورا في وقت لاحق، لكن الدول ستتجه الى ان تكون استراتيجيات التجارة الخارجية وحركة رؤوس الاموال جزءا من نموذجها الاقتصادي وليست بديلا له كما اشار الى ذلك الاقتصادي الامريكي داني رودريك الذي كتب احد اهم الكتب الاقتصادية في السنوات الاخيرة: الاوطان والعولمة، وهذا مامن شانه توليد نماذج تنموية عديدة تتلاءم مع المعطيات الخاصة بكل دولة وامتيازاتها المقارنة وما تثقنه وما يمكن لها اثقانه او تعلمه، بحسب نفس الاقتصادي، لكن مع حدوث متغير مهم دفعت به كورونا الى الواجهة في رايي، وهو حرص الدول على انتاج كل الحاجيات التي تجنبها التبعية للخارج، ما يعيد الاعتبار للصناعات البديلة للاستيراد والفلاحة، وتجاوز الاخطار التي يمكن ان تنتج عن انتشار سلسلة القيم على مستوى عالمي، وهو تحد بالنسبة للصين ولنا، وكذلك مراجعة انماط الاستهلاك المرضية التي تطورت في اطار الانتشار الكاسح للنيوليبرالية والنموذج الامريكي. للموضوع صلة