رواية الطاعون ل”ألبير كامي” و حوار لأجل التطلع إلى الغد في زمن كورونا..
في روايته المعروفة “الطاعون” يعلق الكاتب والروائي الفرنسي الكبير “ألبير كامي” على لسان أحد الشخصيات الرئيسية عن تجربته أمام تفشي الوباء: “إن كل ما يستطيع الانسان أن يربحه في معركة وباء الطاعون والحياة، هو المعرفة والتذكر. ولكن إن كان الهدف هو ربح المعركة ضد الوباء، فما أقسى أن يعيش الانسان فقط مع ما يعرف وما يتذكر محروما مما يرجو ويأمل”.
هذه الكلمات في رواية “الطاعون”، تختزل التجربة الوجودية للإنسان في المواجهة مع الوباء القاتل، أولا تتعمق معرفتنا للعلاقات الاجتماعية تمت حشد الذاكرة لأنها الوسيلة التي تجعلنا لا ننسى وأن نتعلم من تجاربنا، وأخيرا عدم التخلي عن التزامنا في التطلع لغد أفضل.
لقد قمت بإعادة قراءة هذه الرواية في هذه الأوقات من دون تخطيط فقط لملأ الوقت الطويل بشيء يبدو لي مثمرا، فظروفنا تختلف كثيرا عما عاشته شخصيات رواية ” الطاعون ” الذي أصاب مدينة وهران وساكنتها بالجزائر الواقعة تحت الاستعمار آنذاك ولا مجال لإجراء أية مقارنة. لقد شدتني أثناء قراءتي للرواية تلك الحقيقة البسيطة والعميقة في آن التي يعبر عنها بطل الرواية الدكتور “برنار ريو” بعد أن أزيحت عن المدينة الصغيرة جائحة الطاعون وتم الانتصار في معركة الوباء القاتل، وهو يقول لأحد أصدقائه يجب في هذه التجربة أن لا نغفل المعرفة والتذكر تم التطلع إلى الغد.
ويبدو لي اليوم أنه لا بد أن نتشارك مع جميع الواثقين من أن الوباء يمكن أن يأتي ويرحل رغم كل الآلام التي يخلفها، وإن ربح المعركة ضد الوباء ممكنة وهذا مهم وواجب، ولكن من جهة ثانية ضرورة السير مع كل الواثقين من أن إرادة الإنسان في صنع غد أفضل هو الأهم مهما كانت التضحيات.
في هذه المحاورة أردت مشاركة القارئ الحصيف الرأي حول تحديات اليوم والغد، وفي هذا الصدد فإن التاريخ هو المعلم الاول الذي يمدنا بمفاتيح المعرفة الموضوعية لفهم اليوم واستشراف الغد. واعتقد أننا لا زلنا بحاجة إلى تعلم الكثيرمن تاريخ نضال الشعوب التحرري – على الأقل تجربة القرن العشرين- في لحظة الأزمات السياسية و الاجتماعية الكبرى التي تصيب المجتمعات.
في لحظة الأزمات تفتح الأفاق للتحولات الاجتماعية والسياسية العميقة، الأمر الذي نعيشه اليوم. وأيضا تبرز الفوضى العارمة والحروب. و تنبعث من رمادها الأفكار والقوى التحررية الرافضة للتعايش مع النظام القديم والمطالبة بالعدالة الاجتماعية ومشاركة الشعوب في إدارة شؤون الحكم ، ووقف الحروب و تدمير منظومات البيئة؛ كذلك تبرز المواقف والقوى العنصرية والظلامية إلى أعلى السطح. إنه عالم يوشك على السقوط دون أن تتبلور في الافق ملامح العالم الجديد.
ليست أزمة وباء “كورونا 19” وإن تجلت بدايتها كأزمة صحية عالمية، إلا النار في الهشيم، فسرعان ما تحولت إلى إعصار زاحف يدمر في طريقه كل أركان ودعائم المراكز الاقتصادية والمالية الكبرى للنظام الرأسمالي المعولم، حيث أصابها بالشلل ( الأسواق المالية، الاسواق التجارية، وسائل النقل، الصناعات الكبرى والصغرى، الصناعات الاستخراجية، قطاعات البناء، خدمات الترفيه والتغذية والفرجة، السياحة…إلخ؛ فبدأ الكساد يعم مختلف الانشطة وينتشر فوق جميع قلاع الرأسمالية، وسرعان ما بدأت ترتفع معدلات البطالة وتنهار القيم المتداولة في البورصات العالمية الكبرى/ عفوا كازينوهات القمار المقنعة.
من المؤكد أن النظام الرأسمالي المعولم قد بلغ درجات قصوى من تمركزالثروة في يد قرابة 500 من الشركات المتعددة الجنسيات التي تنتمي أغلبيتها جغرافيا إلى المراكز الامبريالية الثلاثة : أمريكا الشمالية، أوربا الغربية واليابان باعتبارها الفاعلة على مجموع النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة ، و أن السياسة النيو-ليبرالية التي تفرضها هذه المراكز على أغلبية بلدان وشعوب المعمورة قد فاقمت التناقضات الاساسية للرأسمالية في مرحلتها الراهنة كما تبدو في رأيي:
التناقض بين الرأسمال و بين قوة العمل وطبيعته في المرحلة الراهنة، فالرأسمالية مبنية كما نعرف على سيطرة الرأسمال على العمل، إلا أن الثورة العلمية والتقنية التي نشهدها حاليا – وتحديدا المعلوميات والأتمتة- قد دفعت بالجزء الكبير من الانتاج المادي/ أي البضائع، إلى الحصول عليها بعمل أقل، ولكن بمهارة وتخصص أكبر .
نستنتج من ذلك أن علاقات الانتاج الرأسمالية القائمة على استغلال اليد العاملة، لم تعد تسمح بتراكم الرأسمال بشكل مستمر ودائم بحكم مهمتها التاريخية. فأصبحت علاقات الانتاج القائمة تشكل عقبة أمام التنمية ونمو الثروة المادية وتوزيعها التوزيع العادل. الامر الذي يمكننا من القول أن الازمة البنيوية للرأسمالية في المرحلة الراهنة اليوم ليست من طبيعة ” انتقالية ” يمكن تجاوزها بتوسع رأسمالي جديد، أو عن طريق “التصحيح” بإعادة توزيع الدخل لصالح العمل كما شهدته رأسمالية ما بعد الحرب العالمية الثانية (دولة الرفاهية كمثال )؛ بل أصبح من المستحيل تنمية الثروةعلى قاعدة علاقات الانتاج القائمة حاليا، أي الملكية الخاصة لوسائل الانتاج كما هي اليوم متمركزة في يد حفنة من الشركات متعددة الجنسيات .
التناقض بين المراكز الامبريالية وشعوب الاطراف أو الجنوب،بمعنى أن الفوارق في مستويات التطور المادي قد بلغت مستويات لم تعرفها الانسانية في تاريخها الطويل ، وللإبقاء على هذه الاوضاع تفرض الولايات المتحدة وحلف الناتو تكثيف التدخل العسكري الذي يعيد إنتاج الهيمنة وتدفع أوربا الغربية واليابان للالتحاق بها.
و تلعب “منظمة التجارة العالمية” والمؤسسات البنكية الدولية ( نظام “برايتون وودز” النقدي ) دور وزارة المستعمرات الجديدة على حد تعبير سمير أمين في رسم السياسات والوصفات الاقتصادية النيوليبرالية.
التناقض بين الفوضى المعممة في استغلال الموارد الطبيعية والانتاج والاستهلاكوبين نظم التوازن البيئي، هذا التناقض ليس وليد اليوم بل هو مرتبط بالنظام الرأسمالي منذ نشأته، ولكن في المرحلة الراهنة أصبح الوضع ينذر بكارثة بيئية وبشرية تدفع العالم نحو الهاوية، وقد شهدنا المأزق الذي دخلت فيه الاتفاقية الدولية للحد من انبعاث ثاني أكسيد الكربون المرتبط “بالصناعات الملوثة” كحد أدنى، ورفض المراكز الامبريالية وخاصة الولايات المتحدة لهذا الاتفاق.
يجب أن نعرف بأن النظام الرأسمالي كنظام اجتماعي هو تاريخي، أي له بداية ونهاية. فقد طورت الرأسمالية القوى المنتجة بمستويات وتوسع لا مثيل لها في التاريخ؛ ولكن في نفس الوقت أنتجت في مراحل تطورها تناقضات رئيسية هي التي أوضحت أعلاه بشكل مقتضب، وحفرت هوة سحيقة بين تطور القوى المنتجة ونتائجها الفعلية، وهي هوة كذلك لم يعرفها أي نظام اجتماعي في التاريخ.
أعود لأنهي هذا الحوار بالتأكيد على أن تجاوز الرأسمالية وبناء نظام جديد يضع حدا لتناقضاتها الرئيسية، وهو ممكن وضروري بالاعتماد على دروس القرن العشرين. أقول التجاوز كخيار للشعوب ينبغي أن تعيه وتؤمن به وتكافح من أجل تحقيقه. فالتنمية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والسلم والعيش في توافق مع البيئة لا يمكن أن تتم في ظل الرأسمالية.