ابنة تيزيني منار طيب تكتب: عامٌ على الرحيل…دهرٌ من الفقد.. في ذكرى رحيل أبي
هل تتذكر حين طلبتَ مني في المشفى أن أجلس أمامك وأُنصت لك وأسجل الملاحظات من بعدك، لقد كنتَ كمن يحاضر في مدرج الجامعة أو في ندوة ما، حدثتني عن الفلسفة والفكر والتراث والثورة والإنسان ثم قلت لي: أعتذر فإنني لن أستطيع أن أكمل هذه المحاضرة المشلولة. رغم ألمك كنت تعلم أن انكساراً عليه أن يأتي لننهض من جديد.
أغمضُ عينيّ وأتسلسل إلى ذكرياتي بحذرٍ شديد، ذكرياتي في جامعة دمشق عندما كنتَ تصحبني معكَ وأنا طفلة، كنتُ ملتصقة بكَ دائماً، أنظر إلى طلابك الذين يحيطون بك ويسألونك أسئلة لا تنتهي، أتذكر الليالي التي كنتَ تسهر فيها لتصحح أوراق الطلاب وتقرأها سطرأ سطراً، وعندما كنتَ تجمعُ طلابكَ في المنزل لمناقشة قضايا كثيرة، لم أكن أفهم عمّا تتكلمون ولكنني كنتُ أفهم كم كنتَ محباً ومعطاءً وتمنح كل ما لديك من معرفة.
صورة جدي مصطفى الكبيرة مازالت معلقة فوق سريرك، فوق رأسك، أحبُّ أن أتأمله دائماً وأشعر بأنه يحدثني عنكَ، لا يغيبُ عن بالي عندما أخبرتني أن والديكَ توفيا بين يديك، كم كان مؤلماً أن تحمل هذه الذكرى طيلة حياتك، كنتَ تبكي في كل مرة تتكلم فيها عنهما، كنتَ تحبهما كثيراً وتتألم لفراقهما رغم مرور السنين، الآن عرفت ألمك، الآن أحسست به، لم تعتد يوماً على غيابهما، ولن أعتد على غيابك.
أرتّب مكتبتك وأمسح الغبار عنها رغم مرارة الأمر، رائحة الكتب التي ما عدت أميز بينها وبين رائحتك، والملاحظات التي كتبتها على كل كتاب قرأتَه، أتذكر جيداً عندما أخبرتني أن هذه الملاحظات تعني أنه يجب دائماً إعادة قراءة كل ما كُتب، وأنك كنت تفكر في إعادة النظر بالكثير من أعمالك لأن الواقع تغير وخصوصاً مع بداية الربيع العربي. لم تيأس يوماً بأن بلادنا ستنجو وأن أملك بسوريا حرة ديموقراطية الذي حلمت به وعملت من أجله سنين طويلة لن يخيب.
هل تتذكر حين طلبتَ مني في المشفى أن أجلس أمامك وأُنصت لك وأسجل الملاحظات من بعدك، لقد كنتَ كمن يحاضر في مدرج الجامعة أو في ندوة ما، حدثتني عن الفلسفة والفكر والتراث والثورة والإنسان ثم قلت لي: أعتذر فإنني لن أستطيع أن أكمل هذه المحاضرة المشلولة. رغم ألمك كنت تعلم أن انكساراً عليه أن يأتي لننهض من جديد:
“أيها الانكسار الأعظم!
لقد لطّختنا بعار رجالك القادمين من خرائب التاريخ!
وأنتِ يا نجمة الصبح البهيّة! لكِ العلمُ أننا، كالطّود،
نغذّ السير إليكِ، بشوقٍ وحكمة واقتدار!”
***
في كل مرة أعود فيها إلى حمص، تتردد كلماتك مع كل نسمة من نسماتها الباردة، وأمشي كما كنتَ تمشي نحو بيت جدي القديم في حي باب الدريب، هذا المكان الذي لطالما وجدناك تتجول فيه وحدكَ خاصة بعد أن تحول إلى ركام. تتسلل إلى مخيلتي الذكرى الأخيرة التي جمعتني بك حين كنّا في المشفى في دمشق عندما كنتُ جالسة على كرسي بجانبك أنظر إليك بينما تنظر إلى السقف بعينين متعبتين، ناديتني لأقترب منكَ وقلتَ لي أريد أن أخبرك شيئاً، أمسكتُ يدكَ وأومأت لك برأسي بأنني أسمعك، عندها قلتَ لي: “منار أنا بحبك، أنتِ سويداء القلب، وبحبكم جميعاً وبحب كل الناس”.
حاولتُ في تلك اللحظة أن أحبس دموعي ، نظرتُ إلى عينيكَ اللتين تشبهان نجمة بهيّة استولت على كل السماء، ثم أخبرتك بأنني أحبك كثيراً وأننا بجانبك وستتعافى ونعود إلى البيت، فابتسمت ثم سالت دمعة من عينك وقلت لي، نعم سنعود إلى البيت في حمص، أحبُّ حمص كثيراً خذوني إليها، حمص هي “المبتدا والمنتهى”. هذه الكلمات لن تفارقني يا أبي، سأحملها معي كل حياتي.
أمشي في شوارع حمص الحبيبة وأسمع الناس من خلفي تقول: “الله يرحم أبوكي”. والبعض يقول: اسمه طيب وكان طيّباً. وبعض الباعة يقلون لي: “اللي خلف ما مات، أبوكي لسا موجود بيننا”.
تختنق الردود في حنجرتي وتجفف الحسرة حلقي، لكن رغم ذلك أشعر بأنك مازلت تمشي بجانبي ولستُ وحدي، تمشي بجانبي كما كنّا نمشي دائماً، ألفُّ يدكَ وأتأكد بأنني أسندكَ جيداً، لأني أخاف أن أفقدك.
سأظل أمشي بجانبك وأسندك ولو غبت، سأسند روحك التي تحيطني دائماً وتعينني على الحياة.
المصدر: قنطرة