فكر .. تنويرميديا و أونلاين

مع نوال السعداوي وسؤال..هل حقا أن “الأنثى هي الأصل”؟

“لا يوجد ما هو أخطر من الحقيقة في عالم مملوء بالكذب”. ليس أفضل من هذه العبارة نفتتح بها الحديث عن نوال السعداوي، الطبيبة المصرية وعالمة النفس والشخصية النسوية والروائية المثيرة للجدل؛ والتي إن اختلفنا معها لا يسعنا إلا أن نحترمها.

نتيجة لآرائها تم رفع العديد من القضايا ضدها من قبل الإسلاميين، مثل قضية الحسبة للتفريق بينها وبين زوجها، وتم توجيه تهمة “ازدراء الأديان” إليها، كما وضع اسمها على ما عرف بـ”قائمة الموت للجماعات الإسلامية”.

القصة بدأت منذ نصف قرن تقريبا، بالتحديد في عام 1972 عندما نشرت كتابا بعنوان “المرأة والجنس”، موجهة نقدا لاذعا لمختلف أنواع العنف الذي يمارس ضد المرأة، بدءا بالختان وما يحيط به من طقوس “وحشية” تقام في المجتمع الريفي للتأكد من عذرية الفتاة.

بقلم الكاتب السوري المقيم في تونس

عند نقطة الصفر

سرعان ما تحول الكتاب إلى نص تأسيسي للموجة النسوية الثانية. ونتيجة لتأثيره الكبير على الأنشطة السياسية، أقيلت نوال السعداوي من مركز كانت تشغله في وزارة الصحة، لم يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل كلفها أيضا مركزها كرئيسة تحرير مجلة الصحة، وأمين مساعد في نقابة الأطباء المصريين.

في عام 1983 كانت شهرة نوال السعداوي، الروائية والكاتبة والمحللة نفسية والناشطة السياسية ذائعة، ليس فقط داخل مصر والوطن العربي، بل في عموم دول العالم. إلا أن هذا لم يحل دون إيداعها السجن يوم 6 سبتمبر 1981، في عهد الرئيس محمد أنور السادات. وأطلق سراحها في نفس العام بعد شهر واحد من اغتيال الرئيس السادات.

سجنت نوال في سجن النساء بالقناطر، وعند خروجها قامت بكتابة كتابها الشهير “مذكرات في سجن النساء”. نشر في الأسواق عام 1983. لم تكن تلك التجربة الوحيدة لها مع السجن، فقبل ذلك بتسع أعوام كانت على اتصال مع سجينة ألهمتها رواية “امرأة عند نقطة الصفر” عام 1975.

في علاقة الرجل بالمرأة لا يمكن الحديث عن طرف واحد هو الأصل، كل منهما المرأة والرجل هو الأصل

كما رفضت محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة في مصر في 12 مايو 2008، إسقاط الجنسية المصرية عن نوال السعداوي، في دعوى رفعها ضدها أحد المحامين بسبب آرائها.

الضغوطات والتهديدات التي تعرضت لها دفعتها للهجرة خارج مصر حيث قبلت عرضا للتدريس عام 1988، في جامعة ديوك وقسم اللغات الأفريقية في شمال كارولينا، وأيضا في جامعة واشنطن.

شغلت نوال العديد من المراكز المرموقة في الحياة الأكاديمية، سواء في جامعة القاهرة داخل مصر، أو خارجها، في هارفرد، ييل، كولومبيا، السوربون، جورج تاون، جامعة ولاية فلوريدا وكاليفورنيا. غيابها عن مصر لم يدم طويلا رغم الإغراءات المادية والمعنوية، واختارت العودة إليها بعد 8 سنوات أي في عام 1996.

فور عودتها إلى مصر تابعت نشاطها السياسي، وفكرت في خوض تجربة الانتخابات في عام 2005، ولكن طلبها لم يقبل بسبب شروط التقديم.

شريف حتاتة: نوال امرأة لا تستطيع أن تتعامل مع أي ضعفشريف حتاتة: نوال امرأة لا تستطيع أن تتعامل مع أي ضعف

في عام 2011 خلال ثورة يناير، كانت نوال ضمن المتظاهرين في ميدان التحرير وسط القاهرة. كما طالبت بإلغاء التعليم الديني في المدارس.

ولكن، من هي نوال السعداوي، التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، خلال نصف قرن؟

الرجل النسوي الوحيد

في حوار مع “الغارديان” البريطانية، قالت السعداوي إنها تمنت في طفولتها أن تصبح راقصة، وأحبت الموسيقى، وكانت جميلة، لكن والدها لم يتحمل ثمن شراء بيانو لها، فحولت انتباهها بدلا من ذلك نحو القراءة والكتابة.

ولدت نوال في 27 أكتوبر عام 1931 لعائله تقليدية ومحافظة بقرية كفر طحلة، إحدى قرى مركز بنها التابع لمحافظة القليوبية. كانت الطفلة الثانية من بين تسعة أطفال. تعرضت لعميلة ختان وهي في السادسة من عمرها. رغم ذلك، أصر والدها على أن تتلقى التعليم، مثلها مثل جميع إخوتها وقد يكون مرد ذلك أن الوالد يعمل مسؤولاً حكومياً في وزارة التربية والتعليم.

وكان والدها من الذين ثاروا ضد الاحتلال البريطاني لمصر والسودان، كما شارك في ثورة 1919، وعقابا له تم نفيه للعمل في قرية صغيرة في الدلتا وحرمانه من الترقية لمدة 10 سنوات. استمدت منه نوال احترام الذات ووجوب التعبير عن الرأي بحرية ودون قيود مهما كانت النتائج، كما شجعها على دراسة اللغات. توفي والداها في سن مبكرة لتحمل نوال العبء الكبير للعائلة.

رغم الظروف الصعبة تخرجت نوال من كلية الطب جامعة القاهرة في ديسمبر عام 1955 وحصلت على بكالوريوس الطب والجراحة وتخصصت في مجال الأمراض الصدرية، وعملت كطبيبة امتياز بالقصر العيني، وتزوجت في نفس العام من أحمد حلمي، زميل دراستها في الكلية. لم يستمر الزواج لفترة طويلة فانتهى بعدها بعامين.

وعندما سئلت عنه في إحدى حواراتها قالت “زوجي الأول كان عظيماً، زميلي في كلية الطب. كان رائعاً، والد ابنتي. بعد حرب السويس التي شارك فيها، أصيب بخيبة أمل وأصبح مدمنا، اعتقدت أن الزواج سيساعده على الخروج من حالة الإدمان، إلا أنه لم يقلع عن الشرب. وحاول في إحدى المرات قتلي، تحت تأثير الخمر، فاضطررت إلى تركه”.

تزوجت نوال مرة ثانية من رجل قانون ولم يستمر هذا الزواج أيضا.

خلال عملها كطبيبة في مسقط رأسها بقرية كفر طحلة، لاحظت المشاكل النفسية والجسدية التي تعاني منها المرأة، والناتجة عن الممارسات القمعية للمجتمع والأسرة. والصعوبات والتمييز اللذين تواجههما المرأة الريفية. وكنتيجة لمحاولتها للدفاع عن واحدة من مريضاتها من التعرض للعنف الأسري، تم نقلها إلى القاهرة، لتصبح في نهاية المطاف المدير المسؤول عن الصحة العامة في وزارة الصحة.

في الأنثى هي الأصل جاهدت نوال لتضع العربة أمام الحصان وتثبت ما لا يمكن إثباته؛ هل البيضة جاءت قبل الدجاجة أم العكس؟
في الأنثى هي الأصل جاهدت نوال لتضع العربة أمام الحصان وتثبت ما لا يمكن إثباته؛ هل البيضة جاءت قبل الدجاجة أم العكس؟

في ذلك الوقت قابلت زوجها الثالث الطبيب والروائي الماركسي، شريف حتاتة، الذي كان يشاركها العمل في الوزارة. وكان قد اعتقل وأودع السجن لمدة 13 عاما، في عهد الرئيس جمال عبدالناصر.

تاريخ نضالي جذب نوال إليه ليتزوج الاثنان في عام 1964. “كان رجلا حرا جدا” هكذا تصفه، وتتابع “عشت معه 43 عاماً. قلت للجميع، هذا هو الرجل ‘النسوي’ الوحيد على وجه الأرض. ثم بعد ذلك اضطررت للطلاق أيضاً. كان كاذباً. كان على علاقة بامرأة أخرى. عقدة الشخصية ذات الطابع الأبوي. ألف كتباً عن المساواة بين الجنسين، ثم خان زوجته. أنا متأكدة أن خمسة وتسعين في المئة من الرجال يخونون زوجاتهم، وفي مصر تخشى السيدات العاديات من الطلاق”، ومؤكدة “أنا غير عادية”.

والحقيقة أن حكاية شريف ونوال تستدعي الكثير من الأسئلة؛ في عام 1964 تعارفا وسرعان ما تزوجا، هي “صاخبة مملوءة بأفكار الحركة النسوية والنضال”، وهو “هادئ رزين مسجون في عزلته الروحية”.

وكان شريف قد وصفها يوما بقوله “نوال امرأة لا تستطيع أن تتعامل مع أيّ ضعف حتى لو كان ضعفًا إنسانيًا”.

ورغم أن المحيطين بالزوجين لم يتوقعوا أن يدوم الزواج أكثر من شهرين، إلا أن زواجهما دام أكثر من أربعة عقود، وانتهى بمفاجأة أكبر. طلق شريف نوال وهو في عقده التاسع، وتزوج من الكاتبة أمل الجمل، وكانت في عمر أولاده.

“نسبة 95 في المئة من الرجال خائنون”، هكذا تطلق نوال حكمها القاسي على الرجال، حتى من اعتبرته في البداية استثناء وعاش إلى جانبها 43 عاما.

مسلحة بتلك المعلومة، وبقناعتها بأنها لا تقول سوى الحقيقة، شنت نوال حملة، ليس دفاعا عن حقوق المرأة، ولكن لإثبات تفوق المرأة على الرجل، وكان ذلك واضحا في عنوان كتابها “الأنثى هي الأصل”. كان هناك الكثير من المؤيدين لها، مثلما كان هناك الكثير ممن استنكروا حكمها، ورأوا فيه عقدة نقص تسيء للمرأة أكثر مما تنتصر لها.

الجنس الآخر

"تايم" تختار نوال السعداوي من ضمن 100 شخصية الأكثر تأثيرا في العالم“تايم” تختار نوال السعداوي من ضمن 100 شخصية الأكثر تأثيرا في العالم

ولإثبات وجهة نظرها، راحت نوال تنبش في التاريخ، بحثا عن مؤيدات، غالبا ما تلوي عنقها، لتثبت صحة أقوالها، مؤكدة أن شعوب ما قبل التاريخ كانت المكانة الأولى فيها للمرأة، بينما كان الرجل تابعا لها. ولم يتغير هذا الحال إلا مع ظهور الأديان.

وتسوق نوال مثلا الديانة اليهودية، حيث يستيقظ الرجل صباحا يصلي شاكرا الرب لأنه لم يخلقه “امرأة”، بينما تصلي المرأة اليهودية كل صباح لتقول “أحمدك يا رب لأنك خلقتني وفق مشيئتك وإرادتك”. ويمضي التاريخ ويكشف كيف “بنيت الديانة المسيحية بعد اليهودية على أفكار مشابهة، جذورها واحدة”.

جاهدت نوال في كتابها “الأنثى هي الأصل” لتضع العربة أمام الحصان، وجادلت لتثبت ما لا يمكن إثباته؛ هل البيضة جاءت قبل الدجاجة، أم العكس؟

بالطبع لا يوجد عاقل واحد، سواء أنثى كان أم ذكرا، يجادل حول مقدار الظلم والاضطهاد الذي عانت منه المرأة. تماما مثلما لا يوجد عاقل يجادل حول قيمة المرأة، التي لا تنقص ولو مقدار ذرة عن مكانة وقيمة الرجل.

كانت نوال على حق عندما سخفت آراء عالم النفس سيغموند فرويد حول المرأة، التي ركز فيها على أن عقدة الأنثى هي فقدان العضو الذكري. إلا أنها لم تكن على حق بتاتا عندما قالت إن المرأة هي الأصل. في علاقة الرجل بالمرأة لا يمكن الحديث عن طرف واحد هو الأصل. كل منهما، المرأة والرجل، هو الأصل.

لفهم ما يجري داخل رأس نوال السعداوي، علينا أن نتحول إلى فرنسا، بالتحديد عام 1949، وهو العام الذي طرح فيه بالأسواق كتاب “الجنس الآخر” أو “الجنس الثاني”، للمفكرة الوجودية الفرنسية سيمون دي بوفوار.

طرحت سيمون في الكتاب عرضا شاملا حول الطريقة التي تعاملت بها المجتمعات مع النساء عبر التاريخ، وغالباً ما اعتبر العمل نقطة انطلاق لموجة ثانية من النسوية. وضع الكتاب، من قبل الفاتيكان، على قائمة الكتب المحرمة، إلى أن ألغيت القائمة عام 1966.

سيمون دي بوفوار: يجب التخلي عن الأساطير التي تتخذ شكل المقدس
سيمون دي بوفوار: يجب التخلي عن الأساطير التي تتخذ شكل المقدس

تقول سيمون دي بوفوار “على المرأة أن تتخلى عن الأساطير والخرافات والعقائد التي تتخذ شكل المقدس، والتي مكنت الرجل الأبيض من اضطهاد المرأة والسيطرة عليها. المرأة إن أرادت أن يكون لها وجود حقيقي كامرأة عليها أن تتخلى عن الأنوثة؛ لأنها مصدر ضعف المرأة، وتتخلى عن الزواج؛ لأنه يمثل أكبر قيد لها، وأيضًا أن تتخلى عن الأمومة!”.

 

 

رؤية شاملة للتغيير

ظهرت الحركة النسوية (الفيمينيزم) في أوروبا كرد فعلٍ على ما تعرضت له المرأة في أوروبا عبر تاريخها الطويل، الذي سادت فيه نظرة الرجل الأوروبي الدونية للمرأة، فجاءت الحركة النسوية لترفض عالَما هو من صنع الرجل، ولتطالب بعالم جديد تكون فيه الصدارة للمرأة، ويكون من صنعها.

ثارت المرأة في الفكر الغربي المعاصِر على النصوص والتفسيرات الدينية، وأرجعت داعيات ورموز الفكر النسوي هذه الصورة المشوهة للمرأة إلى خضوع هذه الحضارة لفكر ذكوري أبوي نابع من العقائد والشرائع الدينية. سعت المرأة إلى تقديم فكر نسوي جديد وبديل. ولكي يؤتي هذا الفكر ثماره كان على المرأة أن تتخلى عن القيود (العقائد والشرائع والأعراف الدينية) وتعلن تمردها عليها.

بعد ثماني سنوات من طرح كتاب سيمون دي بوفوار طرحت نوال السعداوي كتابها “الأنثى هي الأصل” وإن التقت الاثنتان على لوم رجال الدين، إلا أن سيمون لم تسع لإثبات أن المرأة هي الأصل

الموجة النسوية الثانية تلتها موجة ثالثة، وموجة رابعة، هي تطور حديث داخل الحركة النسوية، بدأت عام 2008 واستمرت حتى يومنا هذا.

أما كيرا كوشرين، مؤلفة كتاب “كل النساء المتمردات: صعود الموجة الرابعة من الحركة النسوية”، فتربط بين الموجة الرابعة للحركة النسائية وبين التكنولوجيا. وتُعرف الباحثة ديانا دياموند، الموجة الرابعة بأنها حركة “تجمع بين السياسة وعلم النفس والروحانيات في رؤية شاملة للتغيير”.

بدأت نوال الكتابة مبكرا، فكانت أولى أعمالها عبارة عن قصص قصيرة بعنوان “تعلمت الحب” في عام 1957، وأولى رواياتها هي “مذكرات طبيبة” عام 1958.

صدر لها أربعون كتابا أعيد نشرها وترجم بعضها لأكثر من عشرين لغة، وتدور الفكرة الأساسية لكتابات نوال السعداوي حول الربط بين تحرير المرأة والإنسان من ناحية وتحرير الوطن من ناحية أخرى في نواحي ثقافية واجتماعية وسياسية.

في عام 1972، نشرت أول أعمالها غير القصصية بعنوان “المرأة والجنس” مثيرة بذلك عداء كل السلطات السياسية والدينية. هذا الكتاب كان من أسباب فصلها من وزارة الصحة.

ومن أعمالها أيضا “الوجه العاري للمرأة العربية” وهو تحليل كلاسيكي لظاهرة اضطهاد المرأة في العالم العربي. تضمن بين صفحاته وصفا لختان الكاتبة وهي في سن السادسة؛ العملية التي تمت على أرض حمام العائلة، بينما أمها تنظر إليها تبتسم وتضحك.

قد يستمر الخلاف حول نوال السعداوي وإرثها الروائي والفكري، وربما ينفضّ معجبون ورواد من حولها، تماما كما انفضّ معجبون بأفكار ماركس ولينين من حولهما. ولكن، بالتأكيد ستبقى، كما بقيا، حية في الإرث الفكري الإنساني ما بقيت البشرية، سواء اتفقنا على أن المرأة هي الأصل أم الفرع، وستبقى أعمالها، الأدبية والفكرية، ومن بينها “المرأة والجنس”، و”الأنثى هي الأصل” تحتل مكانها في الذاكرة الإنسانية حية لا تموت.

المصدر: صحيفة العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى