باهي المعتقل السياسي السابق يحكي: ومع السيدة فيوري ومع ماكس أسيدون في المنزل كما في العمل
بعد خروجي من السجن . وبعد معاناتي مع متاعب العطالة المؤقتة وقلة ما في اليد . وعدم توفري على سكن مستقر .
عشت لفترة ما متنقلا في السكن ما بين بعض الرفاق والأصدقاء .
واذكر أن ممن تقبلني وسكنت معهم في هذه الفترة من حياتي ، خالتي لالة رقية ام الفقيد سي محمد الوفا ، والمرحومة اختي فريدة التي كانت تقطن في حي البرنوصي . وكانت ترعبها زيارات الحاج ثابت . وكانت تتوسلني هي زوجها وتطلب مني الذهاب لمقابلة الحاج ثابت حتى لا تتكرر زياراته المزعجة لهم . ولم تسترح المسكينة من رعبه ومن الخوف من إعادة اعتقالي ، إلا يوم ماتت وتركت أطفالها صغارا . وسي محمد الخرفاوي الصديق المراكشي من رفاق زعيم الحركة الإتحادية الأصيلة ورئيس حكومتنا الوطنية اليتيمة مولاي عبد الله ابراهيم .
وأصدقائي من عائلة الخراص الوطنية الطيبة . سيدي أحمد والدكتور عبد الجليل . وخاصة رفيقي وصديقي سي محمد الخراص الذي احبه واعزه . وصديقي الذي لن اوافيه حقه في العرفان مهما فعلت، رفيقي في المعاناة والمحن والصبر ، عبد الرزاق اومحاند ، الصامد مع اخته خديجة وأخيه إدريس اومحاند .
عبد الرزاق اومحاند رفيق الشهيد جبيهة رحال وامين سره في المهمات الصعبة ايام نضال السرية والمحن . وأيام مهمات الصعوبات والمخاطر الجمة في التواصل والتراسل مع السجن. أدعو لرفيقي عبد الرزاق اومحاند من قلبي الصادق بالشفاء العاجل . بعد كل المحن التي مرت عليه وعاني منها أشد المعاناة .
بعد التحاقي بمدينة الدار البيضاء ، في هذه الظروف غير المستقرة والهوجاء ، المليئة بكل أشكال المعاناة والمتاعب . كانت الشرطة لازالت تراقبني ، وتبحث عني وتلاحقني ، أين ما حللت ورحلت.
حتى في أماكن العمل والتمرين .
وخاصة الفرق التابعة للحاج ثابت . التي كررت استدعائي للكوميسارية اكثر ممن مرة . قصد معرفة مكان إقامتي وسكني.
واذكر مرة أن الحاج ثابت كان قد احضر فريقا من اتباعه . جاء يحملهم في سيارة للشرطة. وحضر إلى مكتب الأستاذ عبد الله بورماني . حيث كنت لازالت اعمل آنذاك متمرنا بمكتبه .
وارعب الحاج ثابت كاتبة الأستاذ بورماني وزملاءها في المكتب . وتوعدها بالرجوع إذا لم تعلمني بضرورة الحضور إلى الكوميسارية في أقرب الآجال.
كما اذكر أنني زرت الحاج ثابت فعلا في الكوميسارية بروشنوار . ولما رآني بادرني بالقول أين تسكن . قلت له اسكن مؤقتا مع اختي بالبرنوصي . قال لي زوج اختك يتبرأ منك. ولدينا تصريحات منه يؤكد فيها أنك لا تقطن عندهم . ابحث لك عن سكن . ونحن نساعدك بالملفات. وحسن وضعيتك . قبل أن تبقى هكذا كالمشرد المشاغب . ونرجعك للسجن.
قلت له الملفات ممنوع علي استقطابها والحصول عليها بطرق غير مشروعة. وانتم تعلمون ذلك . والسجن إذا قدر علي أن ارجع إليه فأهلا وسهلا به . تشاءم الحاج ثابت من ردي. وختم الكلام. وقال لي . نحن تكلمنا . وانت فهمت. فاختر أي الطريقين الذي تريد؟
وفي الباب أخبرني حارس الشرطة ان علي أن ارجع لسحب بطاقتي فيما بعد . وبقيت اتردد على كوميسارية الحاج ثابت اكثر من 10 ايام قبل أن استرجع البطاقة الوطنية . فعدت للبحث عن السكن وعن مكتب جديد للتمرين . لأن زيارة الحاج ثابت المفاجئة بسيارة الشرطة لمكتب الإستاذ عبد الله بورماني ، جعلتني في وضعية غير مريحة . بل حرجة . وأصبحت أشعر بأن وجودي في المكتب قد يكون مدعاة لمضايقات جديدة ؟؟؟
تنقلت هكذا في عدة مكاتب للتمرين . وشرعت في إجراءات التمرين بصعوباتها .
والإلتحاق بصفوف مهنة المحاماة في الدار البيضاء بالنسبة لي لم يكن سهلا .
لكن المرحوم الأستاذ محمد الصبري المناضل الإتحادي الشريف وابن الحركة الإتحادية الاصلية ، كان ممن ساندوني ماديا ومعنويا . فلن انساه ولن انس مساندته لي ما حييت .
لذكراك صديقي العزيز ، وفقيدي الأستاذ محمد الصبري كل التحية . ولترقد روحك في سلام وطمأنينة.
وكذلك زميلي المروحوم الأستاذ نبيل محمد الطاهر الرجل البسيط الطيب الودود . والمرحوم الأستاذ الحلوي . والأستاذ احمد فاضل اخي الذي لم تلده لي أمي. الذي كسبت صداقته وصداقة أسرته الفاضلة وأبنائه. خاصة ابنه الشاب سلطان فاضل.
في هذه الأثناء كان المعطي قد رحب بي للسكن معه في سكناه. وعشنا معا حياة الرفقة والصداقة . تحت نفس السقف. وبنفس النظام الغذائي البسيط المشترك . ومن اهم لحظاتنا ان نزور عائلة المعطي سيون اسيدون . عائلة السيدة فيوري و السيد ماكس اسيدون ، من حين لآخر ، في منزلهما القريب من عملها ، بزنقة خريبكة بالدار البيضاء .
زيارات ترحب بها على الخصوص والدة المعطي السيدة فيوري.
السيدة فيروري امرأة طيبة. أنيقة ملتزمة بأسرتها وعملها. مقيمة في الدار البيضاء. ولكنها لا تنس أصولها وثقافة اهلها الآتية من مدينة الصويرة . تحملت مع زوجها وأبنائها كل محن الحياة . خاصة منذ زلزال أكادير الذي اضطر الوالد وأسرته إلى الهجرة من اكادير إلى الدار البيضاء. ثم بداية مشواره العملي الجديد وتجارته.
السيدة فيروري عرفناها أما من أمهات المعتقلين السياسيين. من الأمهات المناضلات قولا و فعلا . تعمل بصمت وتحمل. دائمة الزيارة لابنها. وفي كل الزيارات كانت تحرص على المعنويات الجيدة للجميع . وكانت تبدو دائما إيجابية. مع المعتقلين السياسيين ومع العائلات ومبادراتهم .
كثيرة هي الأشياء الإيجابية غير الظاهرة التي ظلت تساهم بها السيدة فيوري في حياتنا كمعتقلين سياسيين .
وكثيرة هي الأشياء التي كانت تساهم بها مع الأمهات. خاصة المسنات . للحد من عنائهن ومحنهن .
إنها سيدة فاضلة حقا.
تعرفت عليها منذ السجن.
وعلمت انها هي التي لعبت دورا أساسيا ومحوريا في تجهيز القاعة الجماعية التي حصلنا عليها في حي الف.
الكراسي التي ظل يستفيد منها المعتقلون السياسيون هي من احضرتها . وقد تركناها لرفاقنا بعد خروجنا . وهم تركوها لسجناء الحق العام . ليستفيدوا منها بعدنا. وربما بعدهم آخرون .
أفادنا الفضلاء فاستفدنا. واستفاد غيرنا من أبناء شعبنا . وهكذا دواليك .
وبعد السجن أسعدني أنني زدت تعرفا على السيدة فيوري. كأم للمعتقل السياسي رفيقي المعطي سيون اسيدون.
كانت ترحب بي كلما اتيحت لي فرصة زيارتها في عملها أو منزلها رفقة بنها . كانت تفرح حقا. وتريد أن تعبر عن فرحتها بأن تقدم لنا أحسن ما لديها من أكل أو شرب أوهدية ولو كانت بسيطة .
كانت حياتها المنزلية بسيطة ومنظمة. كما هو الحال في مكتبها ومكان عملها. ولكنها انيقة في كل شيء . في العمل المكتبي كما في العمل المنزلي .
ومليكة السيدة التي تشتغل مع السيدة فيوري في منزلها . هي بدورها امرأة طيبة فاضلة. تجالسنا كواحدة من العائلة . ولا شيء يشعرها بغير جو العائلة. ولا شيء يوحي لنا بأنها خادمة.
في العمل بزنقة خريبكة. تعرفت على السيد ماكس اسيدون . في مكان عمله هو كذلك أناقة وبساطة. رجل عملي . يتكلم ويفيد . ولكنه يحب عمله اكثر . ومنخرط ومنضبط فيه بقوة. يعطي حسن المثال لمستخدميه.
جاء من قلب سوس. من مدينة أكادير. حيث نجا هو وأسرته من الزلزال. لكن تجارته في الدراجات النارية تعرضت للضرر بعد الزلزال .
وفي الدار البيضاء أعاد بناء تجارته. وبعمله الدائب . وبعزيمته وانضباطه ، استطاع ان يعيد الإنطلاق . ويمارس مفهومه الخاص الإنساني والبشري والإقتصادي والإجتماعي لنموذج التنمية.
كلما زرته في مكتبه إلا وقضينا معا لحظات جميلة . قد تكون قصيرة ، ولكنها ممتعة. مع كأس قهوة او كأس شاي ، يدعو أحد المقربين إلى إعداده إلي إذا رغبت فيه.
بعض المرات يدعوني لتناول طعام الغذاء معه بمنزله . نذهب سويا مشيا على الأقدام ، ونتحدث في كثير من شؤون الحياة والتجارب .
السيد ماكس اسيدون طاقة مشتغلة رغم كبر سنه . قدوة في العمل. يحب عمله. في وقت الذهاب للعمل كما في وقت الرجوع إليه ، نشيط ومنضبط . ولا يحب ضياع الوقت.
ذات يوم دعاني لتناول طعام الغداء معه. استجبت. وعلى الفور انطلقنا مشيا على الأقدام نحو منزله ، الذي لا يبعد عن مقر عمله .
وفي الطريق لاحظ بأن مصالح جماعة الدار البيضاء ، كانت قد قامت للتو بتزفيت جزئي لإحدى ازقة درب عمر قرب عمله . وبدت له حفرة قادوس مفتوحة ، بدون اي احتياط.
كانت تبدو عليها كل ملامح الخطر . خاصة إذا سقط فيها طفل او امرأة . الناس يمرون ذهابا وإيابا . يلاحظون الخطر . يتأسفون ويمرون. ولكن السيد ماكس اسيدون انزعج من المنظر وتخوف . وعبر على قلقه صراحة. وقال علينا عمل شيء ما . أيدته في فكرته . وقلت له يمكن أن نجري اتصالات أولية على الاقل . لعلها تفيد في تحرك المسؤولين وفعل اي شيء مفيد . صمت لحظة . ومشينا. وما إن وصلنا إلى منزله حتى بادر بتخفيف بعض ملابسه. وقبل ان تهيئ زوجته مادام فيوري وجبة الغذاء. كان هو قد انهمك في كتابة رسالة إلى عامل مدينة الدار البيضاء . اخبره فيها بما رأى . وطالبه بالتدخل العاجل درءا لكل المخاطر .
رجعنا إلى مكتب السيد ماكس بعد الغذاء والقهوة . وقال إنني أنتظر جواب العامل. وإذا لم يتصل بي سأتصل به.
وايقنت ان الوطنية قناعة. وحب الوطن والمواطنين ليس كلاما. بل هو عمل مستمر . والتزام أدبي ومعنوي وعملي في الحياة اليومية . وأن المساهمة في بناء الوطن هي روح خلاقة ودوافع متنامية ومبادرات إيجابية .
وهذا وجه آخر مشرق من الروح الإنسانية الإيجابية ، ومن روح الوطنية البناءة ، و الروح النضالية العالية ، التي تعلمتها من السيدة فيوري أطال الله في عمرها ومتعها بالصحة والسلامة . ومن السيد ماكس اسيدون الذي له مني كل دعوات الخير والرحمة.
ولترقد روحه في سلام ابدي .