ذاكرةميديا و أونلاين
ذاكرة: محمد حفيظ هكذا عشت وتفاعلت مع “الربيع المغربي” 20 فبراير وأنا صحافي (الحلقة الثانية)
“دابا بريس” ، تنشر تجربة صحافي واكب حدثا تاريخيا ولحظة تاريخية اسمها حركة 20 فبراير… ضمن سياق ما سمي ربيعا عربيا ..
قبل 10 سنوات، عشنا ذلك الحدث التاريخي الذي سمي إعلاميا بـ”الربيع العربي”، حين بوغتت عدد من الدول العربية باحتجاجات سرعان ما تحولت إلى انتفاضات عَمَّت ساحاتِها وشوارعَها ووصل سقف مطالبها إلى “إسقاط النظام”.
انطلقت شرارة تلك الانتفاضات، التي تحولت إلى ثورات، من تونس باحتجاجات أشعلتها حادثة البوعزيزي، ثم ما لبثت أن انتشرت بعدد من بلدان المنطقة العربية، ولم تسلم منها بلادنا التي عاشت “النسخة المغربية” التي أطلقتها حركة 20 فبراير.
شاركتُ في أول مسيرة من مسيرات حركة 20 فبراير بالعاصمة الرباط يوم 20 فبراير 2011، وبعدها شاركتُ في عدد من تظاهراتها بالدار البيضاء، مسيراتٍ ووقفاتٍ…
ومن موقعي الصحافي، واكبتُ ذلك الحدث التاريخي وتفاعلتُ معه بافتتاحيات بصحيفة “الحياة الجديدة”.أول افتتاحية ذات صلة بالحدث كتبتُها قبل خروج حركة 20 فبراير إلى الشارع بشهر (نُشرت بتاريخ 21 يناير 2011)، تفاعلا مع ما كان يجري في تونس وليبيا ومصر واليمن… وكان أحد أسئلتها: هل يمكن أن يحدث بالمغرب ما حدث بتونس؟ بعدما كان هناك من يدعي أن المغرب لن تصله “عدوى” انتفاضات “الربيع العربي”.
تخليدا للذكرى العاشرة لحركة 20 فبراير، سأعيد هنا نشر بعض الافتتاحيات التي كتبتُها خلال سنة 2011، في مواكبة لإحدى أبرز اللحظات التاريخية التي عاشتها بلادنا والمنطقة العربية عند مطلع العقد الثاني من القرن 21.
الافتتاحية الثانية
*زمن الثورة*
28 يناير 2011
ما يجري هذه الأيام يجعل حال الرئيس المصري، الذي يبلغ من العمر عتيا، يثير الشفقة. الرجل، الذي شهد ثورة الضباط الأحرار سنة 1952 وخدم في عهد جمال عبد الناصر وخلف الرئيس المغتال أنور السادات الذي انتهت حياته برصاص «إسلامي»، يواجه غضب الشارع المصري الذي يطالب برحيله، بعدما ظل متشبثا، بكل ما أوتي من قوة، بكرسي السلطة لمدة تصل إلى ثلاثين عاما.
لا أظن أن الحالة التي يوجد عليها الرئيس المصري لها علاقة بالاحتجاج في حد ذاته. فقد اعتاد حاكم الكنانة، الذي استحلى الحكم منذ 1981، على هذا الغضب الذي يؤججه كلما أصر على الاستمرار في حكم البلاد، ويزيد في تأجيجه كلما سعى إلى تهيئ الشروط لتوريثه لابنه جمال. فلم يكن الرئيس يبالي بذلك الغضب، الذي ما يفتأ أن يفتر بعد حين. كان مطمئنا إلى قوته وآلته العسكرية التي يوكِل إليها مهمة تفريق الغاضبين أو تشتيتهم.
لكن حسني مبارك، بعد المصير الذي لقيه زميله في الحكم زين العابدين بن علي، الذي جعلته الجماهير الغاضبة والمنتفضة في تونس، في رمشة عين، بدون حكم وبدون قصر رئاسي، وتحول إلى مهاجر خائف من البلد الذي حكمه بالحديد والنار، ومختبئ لا يملك القدرة على الظهور أو حتى الكلام.. لكن حسني مبارك، بعد هذا المصير، لا ينظر إلى هذه المظاهرات التي تشهدها اليوم بلاد الفراعنة مثلما كان ينظر إليها في السابق.
إنها مظاهرات تعلن أنها تحمل نَفَسَ انتفاضة التونسيين الذين جعلوا بلادهم تتحول إلى نموذج للثورة الشعبية التي تطيح بالحاكم المستبد، بعد أن كانت نموذجا للنظام البوليسي الذي نجح الرئيس الهارب، خلال حين من الزمان، في تسويقه. المصريون المنتفضون خرجوا إلى الشارع، وهم مسلحون بأسلحة الثورة التونسية وعتادها. ليس المهم أن ينتهي غضبهم إلى ما انتهت إليه ثورة التونسيين بالضبط. ولكن المهم هو أن زمن الثورة التي أطاحت بالرئيس الهارب امتد ليعم كل أرجاء هذه المنطقة، التي ظن بعض حكامها أنها خارج زمن الثورات. وحتى البلدان التي لم تشهد أي حركة، فلا يمكن لأحد أن ينكر أنها لم تدخل زمن الثورة. فالوسائل الحديثة للإعلام أصبحت اليوم تتكفل بهذه المهمة. ولم يعد للتعتيم السلطوي أي دور في إخفاء غضب الشعوب والتغطية على انتفاضاتها. ولذلك، وباستحضار انتفاضة تونس، نفهم لماذا انتشرت عدوى الاحتجاج. بل حتى الأنظمة أصبحت تتصرف على ضوء هذا الحدث.
لقد سارعت العديد من دول المنطقة إلى الإعلان عن اتخاذ إجراءات استعجالية لحل المشاكل الاجتماعية المتفاقمة التي كانت وراء إشعال شرارة الانتفاضة التونسية. وأبدت سخاءً غير معهود برصد ميزانيات ضخمة لتوفير الشغل والسكن. وهذا من نتائج ثورة التونسيين، التي بدأت شعوب أخرى تجني ثمارها اليوم، وستجني ما تبقى في المستقبل القريب والبعيد. وتجدر الإشارة هنا أيضا إلى اضطرار عدد من الدول إلى تخفيف التشدد الأمني في التعامل مع المحتجين. ففي الأردن، تابعنا كيف أن رجال الأمن تكلفوا بتوفير الماء للمتظاهرين، وكانوا يقدمون إليهم خدماتهم بكل لطف ورقة. وفي الجزائر، صدرت تعليمات لعناصر الأمن بعدم التعامل بعنف مع المواطنين في الشارع، حتى لو تعرضوا لاستفزاز من بعضهم، وصدرت الأوامر بألا يحولوا منصبهم الأمني إلى امتياز عند قضاء أغراض إدارية أو غيرها. وفي مصر نفسها، لا بد أن نسجل أن الجهاز الأمني، على غير عادته، لم يتعامل بالعنف والتشدد اللذين كان يتعامل بهما قبل الثورة التونسية، رغم درجة الغضب التي عبرت عنها الاحتجاجات، والتي وصلت حد تمزيق صورة الرئيس مبارك على إحدى اللوحات الكبرى.
لقد بلغ الغضب درجة قصوى. ولعل هذا الإصرار على الاحتجاج، رغم سقوط قتلى وجرحى، يعكس شدة الغضب من أنظمة غير ديمقراطية، ومن حكام يصرون على الاستبداد بالسلطة والحكم، خارج كل المعايير التي بلغها العقل البشري في القرن الواحد والعشرين. فحين يتم تمزيق صورة الرئيس المصري، فإن درجة الغضب تكشف عن مستواها. وهو ما ينبغي أن يلتقطه المعني بالأمر. ففي تونس نفسها، لم نشاهد صورة الرئيس المخلوع ممزقة، إلا بعد فراره ومغادرته الوطن.
كان على الرئيس مبارك أن يستفيد من الدرس التونسي ويسارع إلى إزالة صوره من الشارع العام، حتى لا تتعرض للتمزيق. في الدول الديمقراطية لا نجد صور الرئيس تملأ الفضاء العام، إذ إن وجودها يقتصر على المكاتب والمصالح الرسمية. بينما في الدول غير الديمقراطية، نجدها تملأ الساحات العمومية، بابتسامة مصنوعة بعناية، وحركة اليد المرفوعة التي لم يعد لها أي معنى، بسبب تكرارها واستنساخها بنفس الشكل من طرف كل الديكتاتوريين.
المنطقة العربية تعيش اليوم زمنا عنوانه «الثورة الشعبية». لقد جربت المنطقة ثورات غير شعبية. لكنها لم تُنتج غير الاستبداد وحرمت الشعوب من الحرية وأفقدتها الكرامة وسرقت ثرواتها، وكان مصيرها الفشل التام. لذلك، يعيش الناس اليوم «زمن الثورة»، ولو من بيوتهم وأمام شاشة التلفاز.