ذاكرةسياسة

تفنوت: يفكك بنية دغمائية العقل اليساري..منذ الاستقلال لم نمارس السياسة إلا بخطاب التاريخ…

قبل أن نعود لحزمة الأسئلة التي أنهينا بها حلقتنا السابقة والتي تحلقت حول الكيفية التي تعامل بها مؤتمرو الحزب الإشتراكي الموحد مع أسئلة السياسة الكبرى في وجه وضع مختل سارت فيه الدولة ترسم مسالك أخرى للأستفراد بالقرار الدولتي والمجتمعي العام( من بدايات 2006 حتى نهايات شهر يناير 2011 )…
وحتى لا يقع أي التباس في فهم ما أود تبليغه من مقاصد فكرية سياسية من هذه المساهمة في فتح نقاش هادئ وصريح حول مايجري على أرض اليسار المغربي بمختلف جغرافياته التنظيمية…بدت لي الضرورة ملحة لتسليط الضوء على مسألتين اثنتين :

أولها أنني حين اخترت منطلق الكتابة من حدث المؤتمر الثالث للإشتراكي الموحد فلسبب بسيط، هو أنني عضو في هذا الحزب واشتغلت فيه مع ألعديد من الرفاق الذين جمعتني بهم حدود متفاوتة من القناعات السياسية جوهرها العام يوجد في” مناجم ذهب” أرض اليسار لا في غيرها على اليمين أو حتى على ما سيسميه البعض وهما بالوسط…

وفي تقديري المتواضع فإن هذا البيت اليساري والتجربة التي عشتها بين حيطانه تمكن الذهن الباحث على مزيد من الفهم لأوضاع اليسار المغربي،و الحصول أيضا على مايكفي من المعطيات السياسية لتشكيل رأي عن ألمآلات التي تنتظره بكل فصائله وليس للأشتراكي الموحد لوحده…

لكنني أومن بأن الإكتفاء بمعايشة التجربة الواحدة مهما بلغت درجة شموليتها ستبقى ناقصة على طريق الإلمام بكل مرايا وأركان العمران اليساري الذي نشات بداياته منذ الفترة الإستعمارية وحتى قبل نشوء الدولة الوطنية لمابعد مجئ فترة الإستقلال…

ثاني الملاحظات هو أن الحكي التحليلي الذي اخترته وسيلة للحديث عما يحدث على أرض اليسار اليوم، لا نية لي في أن أتخذه مطية للهروب إلى دوائر الماضي وإرخاء الذهن تحت ظلال أشجاره وواحاته المريحة….فأنا أعتقد أن الماضي عموما “لاذنوب كبرى ” له في مايقع في حاضر السياسة مهما كان حجم الخسارات التي سبق للماضي أن سجل وقوعها…ففي السياسة الحاضر وحده هو مايدلنا على مايقع في الحاضر، سواء مايقع يكون انتصارا أو انتكاسا، سقوطا استراتيجيا أو ربحا تكتيكيا سواء في زمن الحرب والسلم…
من المؤكد أن للتاريخ أستمرارياته وحتى تمددات قطائعه وهو بالتالي يفتح لنا صفحاته لنعاين عن بعد وعن مسافة فعل العوامل الخفية اللاشعورية التي تساعد أو تمانع في حدوث الوقائع أو انتفائها…

لكن فهم مايصطلح عليه ابن خلدون ب” تاريخ العبر ” أو دروس التواريخ البعيدة ، وإن كان ضروريا لسعة النظر، فإنه
ليس شرطا كافيا، ولن يشكل ضمانة لإطلاق صيرورة التغيير في آنية زمن السياسة وحاضر تطبيقاتها…

وهنا تكمن إحدى سمات الضعف ” شبه البنيوي ” في التجربة اليسارية المغربية و منذ وقت ليس بالقريب…فالمتابع لتقاليد الممارسة النضالية لهذه المدرسة سيكتشف أن هيمنة” العبارة ” التاريخية على جل المتن السياسي اليساري بمدارسه الثلاثة( الإشتراكي- الشيوعي- واليساري الماركسي..) تتحكم في كل ممرات السياسة وتخنق قدرتها على التنفس، وبالتالي على بلورة أشكال سياسية من الفهم والتفسير والتخطيط ورسم الأهذاف الممكنة…

وماعلينا إلا أن نقوم بجرد وتصنيف حثيت لثراتنا المكتوب فقط، لنلمس بزبد أصابعنا ضعف نسبة الفكر السياسي لصالح الخطاب التاريخي الإيديولوجي ذو الطعم القادمة روائحه من مطبخ الخطاب الوطني التقليدي السلفي…

شئ من الملاحظة عن وثائق المؤتمر….

في الحلقة السابقة ذكرت وتوقفت بالتساؤل عن لماذا لم تنجح الوثائق والأرضيات الأدبية التي قدمت نفسها في الجلسات العامة لهيئة التحضير للمؤتمر الثالث ( أقصد الأدبيات السياسية وسأعود لاحقا لهذا المصطلح ) في رسم إمكانيات للتركيب الفكري السياسي فيما بينها بطريقة بنائية synthèse politique…وتساءلت عن الأسباب المبررة لهذا العجز، الذي نراه اليوم يستفحل أكثر ويهدد بالمزيد من انفراط عقد ماتبقى من مبنى اليسار…!!!

وهنا أعود إلى تلك العلاقة الغير صحية في مراس تيارات اليسار ما بين ” الحاضر والماضي ” ، سواء على صعيد المنهج أو على صعيد النفسية النضالية لأطر وقيادات عديدة من قيادات اليسار وهي تنتج خطابها التعبوي الإشتراكي الجذري كلما اجتمعوا بقواعدهم، وكلما كانوا بصدد مقاربة حدث أو قضية ذات طبيعة سياسية…

ولقد سمحت لي فرصة المشاركة ومن موقع حيوي في نقاشات المؤتمر الثالث للإشتراكي الموحد، كصاحب وثيقة ( وقعتها بالإشتراك مع الرفيق أحمد دابا )و حظيت باستماع جيد من طرف أغلب المناضلين، أن أعطي لنفسي مايكفي من الوقت لأقرأ جيدا ما أقدم الرفاق الآخرين على صياغته ومحاولة القبض على الجوهر فيه…

ولقد سجلت وقتها و بكثير من الإلحاح في إحدى الجلسات الخاصة بالملاحظات الأولية على ما ظهر لي ك ” عائق ذهني ” يشوش علينا رؤية السياسة بأدوات السياسة وليس بغيرها من بلاغة الرجوع إلى الوراء…
ولقد تمكننا، ولو بغير قليل من الإرتجال، أن نوفر الوقت المعقول للمرافعات والدفاع عما تم تقديمه من وثائق وأرضيات…
وفي هذا الباب لابد أن أعترف بأنني كنت شرس الملاحظة في الكثير من الحالات وخصوصا حين تتضخم عند بعض الرفاق المؤثرين نزعة الخلط هاته…حتى ليخيل لك في بعض الأحيان وكأنك عدت( فعلا لاخيالا ) إلى زمن غير زمنك…

كل مرة أتذكر فيها تاريخ المعارك الفكرية للحركات الإشتراكية والشيوعية وما خرج عنهما من حركات التمرد الإيديولوجي، أتذكر ذكاء صاحب كتاب ” الصراع الطبقي في فرنسا…والثامن عشر من برومير..” ، في قراءة العلاقة المعقدة التي تجمع السياسة بالتاريخ، والتاريخ بالسلطة…

وكم كان( ولازال) يعجبني قوله البليغ الذي لا يمكن أن يصدر إلا عن عقل شديد الحرص على تفكيك وتيسير الفهم للعمال والمثقفين والعاطلين والإصلاحيين والثوريين ولكل من له مصلحة في مناهضة الإستغلال والقهر …ففي هذا القول كان يجزم بأن البشرية- تاريخيا- لاتطرح على نفسها إلا المشاكل التي تستطيع حلها….وهذا يعني أن الحلول القائمة هي قائمة في حاضر الدولة والمجتمع وليس في ماضيهما !!!! ومن يقول بغير ذلك فإنه سيعيش أبدا في بيوت الوهم والإستلاب…بل والضعف….

في لحظات عديدة من مساراتي البسيطة في السياسة إلى جانب الرفاق، ومن بينها اللحظات الأولى لمحاولة إعادة بناء اليسار الكبير بعد مغادرة السجون في مطلع التسعينيات، سارت تترسخ لدي قناعة قوية بأن جل اليسار المغربي (وحتى لا أقول كله ) و منذ سنوات 56 لم يمارس السياسة
إلا “التباسا ” بخطاب التاريخ…وليس التاريخ… وبالإنحدار سجودا أمام دعاوى فقه الأخلاق…

هذا ماكان جزء كبير فيه يكبل مؤتمرنا ولايسمح له بأن يكون في مستوى اللحظة التاريخية التي انعقد فيها، لحظة حركة الربيع المغربي الذي قاده أبناءنا وأبناء المغاربة من جيل أراد أن يعيش حاضره فعجز الحقل السياسي عموما واليساري منه على الخصوص على أن يصنع معه فرصة ” التفاهم ” التاريخي لإزالة الإستبداد لا بسند خطاب ماضوي يلغي التفكير في شرعيات المستقبل…

وهذا ما سنحاول أن ننبش في بعض من أسبابه الإضافية في الحلقة القادمة….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى