– في حديث الحلقة السادسة انتهينا، ونحن نقف عند مكامن ضعف القوى اليسارية المغربية أثناء موجات ربيعنا المغربي، إلى تسجيل واحدة من الخلاصات التي سجلناها في حينها وتوقفت عندها العديد من النقاشات والكتابات المختصة بألموضوع…فقلنا مايلي: ” وبحكم أن الأمور بقيت على حالها، فإننا عشنا لحظة عجيبة غريبة في مسار تاريخنا اليساري، والتي يمكن تلخيصها في الصيغة التالية: منذ انفجر صوت الشارع المغربي تلبية لنداء حركة عشرين فبراير، في أكثر من تسعين موقعا حضريا وقرويا، في مدن كبرى وفي أخرى جد صغيرة ونائية، دخل المغرب، ولما يقارب السنة، مرحلة نزاعية كان يتعايش فيها وضعان متناقضين:
وضع موضوعي يمكن نعثه بالوضع الثوري، ووضع ذاتي يمكن تسميته على الضد من الأول بالوضع غير الثوري،المفكك والمأزوم، والفاقد للمبادرة، التجريبي النزعة دون خطة، والغارق في استلابات ذاتية متعددة الميزات، تمنعه في أن يكون في مستوى مواكبة المهام السياسية الكبرى التي يطرحها هذا الوضع الذي نعثناه بالثوري…”
– وحتى لايقع أي غموض في فهم المقصود الذي نويت به استعمال كلمة ” الثوري ” وغير ” الثوري” في هذا السياق ،فإني أسارع إلى القول بأنني لاأحيل، في باب استعمال هذا المعنى، على تاريخه الآيديلوجي البعيد نسبيا، الذي هو تاريخ الثوراث الحديثةوالمعاصرة ، وعلى الخصوص منها الثورة الفرنسية، والروسية البلشفية، اللتان شكلتا القالب والمخيال لمفهوم الثورة والوضع الثوري عند جل الحركات الإشتراكية والشيوعية بأجيالها المتفاوتة الزمن والفعل والقوة…
– هذا الفهم الكلاسيكي لم يعد اليوم، و بعد مئات من السنين يستوعب معناه الأول الكثير من الدروس والعبر، الإخفاقات والنجاحات، الإبداعات والأخطاء، التضحيات والضياعات، البطولات والإنكسارات ، التي يعرضها علينا شريط الوقائع التاريخية التي قلبت حياتات شعوب كبيرة وكثيفة…
– فلقد بينت القراءات والدراسات في حقول الفكر والسياسة والإجتماع والتاريخ أن الأوضاع الثورية ليست دائما تلك المقرونة بالقطائع العنيفة، والدموية، والتسريع الإرادوي في قلب نظام الدولة، من فوق وإبداله بنظام آخر، بوجوه جديدة أو من جوف العهد السابق، مع فارق في طريقة ” قراءة” بلاغ السقوط…. وبعدها بلاغ الصعود…أي الصعود إلى السلطة بالبثر والإلغاء دون فكرة التخصيب، تخصيب النفوس والعقول، وتخصيب نشاطية المواطنين ليكونوا فاعلين في تقرير مصيرهم ورسم مستقبلاتهم كشعب، وكبلد، وكدولة/ وطن…
– إن الوضع الثوري الذي أقصده هنا هو الحالة التي تتجمع فيها إرادة قوى التقدم من كل تيارات المجتمع، في لحظة تاريخيةو حول مطالب ليست فئوية، بل تهم الجزء الغالب من الشعب الذي لم يعد يقبل الإستغلال والإضطهاد…
– وفي تقديري فإن مجرد التوصل إلى توحيد لغة نقدية للحالة السياسية القائمة ضد دولة طاغية هو في حد ذاته عملا ثوريا، لأنه ينتقل بكينونة الأفراد من الإنكماش الذاتي الفردي، إلى الإنصهار في حركة الرفض والنقد لماهو قائم، وهذا قد يفتح الباب لحركيات تخرج الناس من عقيدة الجمود والخوف من مستقبل الأيام،ومن انتظار الحلول من مكان “علوي” ذو طبيعة سحرية…
– وللتوضيح الإضافي أيضا، فكوننا نصف هذا الوضع بالثوري فهذا لا يعني إضفاء النقاء والبقاء والثبات عليه وبالتالي حتمية نجاحه…
فكم من سيرورات ثورية انطلقت بقوى كبيرة ولم تنجح وهي في بداياتها، وكم من حركات ثورية وعنيفة دشنت شريطا من النضال القاسي والملئ بالبطولات، لتتحول قيادات دولتها الصاعدة إلى أشرس من تلك التي أزيلت في عهد سابق…
– هذا على صعيد التعريف والتشخيص الموضوعي لمفهوم الوضع الثوري ، وهو مانعتقد أنه تحقق جزء منه حين تدفقت جماهير عريضة في نفس الموعد و في نفس الأمكنة غير عابئة بالحملات التهديدية لمختلف السلط والأجهزة، مستعملة نفس القاموس البسيط( البساطة ثورية عموما ) لتسمية طبيعة الحكم الذي يحكمهم والمستغل الذي ينهب عملهم وخيراتهم، ولإعلان عنوان واضح لشعار تحرير الشعب من معاناته تلك : ” الشعب يريد إسقاط الفساد والإستبداد..”
– يجب أن نستحضر تقاسيم ذاك الوضع السياسي المغربي يومها، ونستحضر معه لعبة السلطة ” ومتاهاتها” المركبة وشهوتها الجامحة للإستفراد بالكل ، وكيف أنه لم يكن أحد في ذاك الوقت المستحكم في معابره السياسية، يتخيل أن ” واقعة ” بحجم صفعة شرطية تونسية لشاب تونسي خريج الجامعة الوطنية التونسية و يبيع الفواكه بالتقسيط في واحد من شوارع بلاد الزعيم” بورقيبة “، ستلبد بالغيوم المكفهرة ليس فقط سماء بلاد القيروان ودولة ” بنعلي ” البوليسية القاسية، بل إنها ستصيب بشظاياها الحارقة منطقة جيواستراتيجية بأكملها، من المحيط حتى الخليج الجالس على أكبر ثروات الدنيا وغير الدنيا…
– وبطبيعة الحال كان” حظ” المغرب من قسمة هذا” القدر” غير المتوقع، و الآتي من جمهورية أبي القاسم الشابي، ” حظا” مليئا بالخصوصية المغربية، بما لايعني الإستثناء الخارج عن قواعد الفهم العلمي كما تروج له بعض الكتابات المقربة من الأطروحات الرسمية، بل بمايعنيه من دروس وعبر على حجم وطبيعة الصراع الطبقي العام الذي تشتبك فيه الدولة مع المجتمع، ومع نفسها، وتشتبك فيه قوى المجتمع مع بعضها وهي تتصارع أو تتوافق مع أحكام وسياسات الدولة و نظامها السياسي الإقتصادي بارتباطاته الخارجية…
– الربيع… يختبر المغرب يسارا ويمينا:
بعد ما يقارب الإثنى عشر سنة على مرور الربيع المغربي الذي حمل في بطاقته الوطنية الرقم المعاند لحركة عشرين فبراير، لازالت الوقائع الملموسة تؤكد على النتيجة العارية من كل المساحيق، وهي أن هذا البلد بكل مكوناته في الدولة والمجتمع لم يستطع أن يصنع لنفسه موقعا مهابا على خريطة المنطقة المتوسطية،أولا، وأن يغتنم فرصة 2011 ليلخص الطريق الطويل ويلطف آلام المرور لميلاد عهد الديمقراطية وبناء دولة المواطن الحر المنتج الرفيع الوعي والمستقل الإرادة…
وهذا ” الراطاج ” الكاشف لمانحن عليه من درجات التطور المعطوب، هو ماأسميته بالوضع الذاتي غير الثوري، بالمعنى الذي يفيد الفشل في أن نجعل من ثورة إصلاحية، برنامجا تاريخيا للإصلاح الثوري العميق، تبدأ ذبذباته الأولى بشكل مزدوج من الفوق إلى أسفل العمارة الوطنية، ومن أسفل الدرج إلى سطح نفس العمارة…
وبعبارة أشد تركيبا ووضوحا لما نريد قوله، نستطيع أن نزعم بدون ديماغوجية سلخ الذات، إن وضعنا الذاتي المتموضع على مسافة من متطلبات وضعنا الموضوعي واستحقاقاته التي فاتتنا مواعيدها كم من مرة، يعني فيما يعنيه أساسا غياب المشروع السياسي الكبير وعلى ثلاثة مستويات:
– على مستوى مشروع الدولة الحديثة السوية الشخصية القانونية بفلسفة إنسانية كونية، قائمة على فصل صريح للسلط،المراقبة الواحدة منها للأخرى، وتعاونها على التجسيد الأمثل للسيادة الوطنية..
– على مستوى مشروع التمثيلية الديمقراطية الشعبية عبر صناديق الإقتراع العام كمناط لسلطة الشعب عبر ممثليه المنتخبين بشكل نزيه لاشبهة فيه..
– على مستوى مشروع بناء حياة حزبية مستقلة تتناوب على السلطة وفق شرعية العقد البرنامجي الإنتخابي المعلن في الفضاء العمومي أثناء مراحل الإقتراع العام، وبمرافقة منتجة لحركات مجتمع مدني يحوز أخلاقيا وثقافيا وخبراتيا على شرعية الوساطة العادلة والحكيمة في مختلف سيرورات البناء الديمقراطي…
– وإذا كان لنا اليوم أن نصدر خلاصة من الخلاصات السياسية القاسية ،ونحن نحدد المسؤوليات في هذا السياق” الربيعي ” الذي لم يقفل بابه بعد، وبالخصوص مسؤولية عدم تملك المغرب لمشروع مجتمعي بمداخيله الأولية التي إلى ثلاثيتها أعلاه، فإننا سنحمل ذلك بالدرجة الأولى للدولة بقيادة السلطة الملكية، وبمباركة غير نقدية للهيئات والمؤسسات السياسية الحزبية والإقتصادية المالية والثقافية الفكرية المنخرطة استشاريا وتنفيذيا في تطبيق البرنامج الرسمي للدولة بأجنحته المتعددة…
لكننا لن نقف عند الحد ولن نقول بأن لا أحد آخر يتحمل جزءا من تلك المسؤولية ولو بقسط صغير يعفيه مما يمكن أن نسميه بالمشاركة الصامتة، أو الناطقة في أتجاهات” تعمي الأبصار” ، وتعقد وتضيف صعوبة على صعوبة لكي لا يرى مشروع الديمقراطية المجتمعي المغربي صعوده الواثق من عدالة طموحه في بناء مغرب بدولة قوية لا دولة قمعية….
وهذا سنفتح فيه أبوابا للحوار والمؤانسة الفكرية في حلقاتنا القادمة…