عماد استيتو يكتب: خسارة العدالة والتنمية.. هيا نمارس قليلا من الدجل التحليلي
قالت الرواية الأولى إنه أكبر تصويت عقابي في التاريخ الانتخابي المغربي ضد حزب قاد التدبير الحكومي لعشر سنوات، وقالت حكاية أخرى إنه تصويت شعبي ضد مشروع الإسلام السياسي ونهاية لآخر معاقله في المنطقة بعد تجربتي مصر وتونس، وتروي “حدوتة” مشابهة أن التصويت ضد الإسلاميين هو تصويت لمصلحة النجاعة ومن أجل التنمية وإنقاذ الاقتصاد ضد خطابات الطهرانية والشعارات الجوفاء.
بغض النظر عن حقيقة أن هذه التحليلات الاختزالية لا يمكن إدراجها إلا في خانة الهلوسات اللفظية التي تحركها عادة أحقاد أيديولوجية أو هيمنة الأمني على التحليل السياسي، أو في أفضل الحالات وأكثرها سذاجة فهي تبنى على محاولة بناء قراءات وتفسيرات للمشهد السياسي المغربي، بناء على ما تقوله العلوم السياسية والتجارب المقارنة، فإن هذه الروايات جميعها تشترك في أن الخبر الرئيس الذي يستأهل التحليل هو هذه الهزيمة الكبيرة التي مني بها “حزب العدالة والتنمية” في الانتخابات العامة في 8 سبتمبر.
فوز “حزب التجمع الوطني للأحرار” بهذه الانتخابات خبر لا يستحق الصفحة الأولى، ربما لأن الجمهور كان معداً نفسياً له من قبل، أو لأنه انتصار بأب وحيد وأعمام كثيرين، ما يجعل شرح الواضحات من المفضحات، والاجتهادات التي تحاول البحث عن تعليل منطقي أو شرعيات سياسية للاكتساح الانتخابي لحزب خلقته الإدارة واحتضنته وأطعمته حلالاً وحراماً طيلة عقود، مجرد مضيعة للوقت.
أكثر من مجرد هزيمة
لماذا مني الإسلاميون بهذه الانتكاسة؟ قد يكون هذا السؤال أصعب سؤال طرح في مغرب ما بعد الحسن الثاني الذي قدم وصفته إلى العالم: ديموقراطية الواجهة أو كيف تحكم شعباً بالانتخابات من دون الحاجة إلى الاعتماد كثيراً على صناديق الاقتراع…
هذا سؤال أكثر تعقيداً من سؤال كان مطروحاً في أوساط السلطة والنخب السياسية من خارج اللعبة وداخلها: ماذا سيحدث لو قاد الإسلاميون الحكومة في يوم من الأيام؟ وفي بلد مثل المغرب، لا تحدث فيه الأشياء أبداً كما المتوقع، وليس المنطق- على الأقل كما نتصوره- ضيفاً خفيف الظل عليه، تبدو محاولة الجواب على هذا السؤال تمريناً صعب الحل، أو دجلاً تحليلياً.
لا بأس، دعونا نتسلى بممارسة بعض الدجل إذاً لفهم هذه الخسارة، وهي أكثر وأكبر من مجرد هزيمة انتخابية.
لا يمكننا أن نتجاهل واقع أن إدارة العملية الانتخابية الحالية وطريقة هندستها وإخراجها والجمع بين أكثر من انتخابات في يوم واحد، والاستعمال الفاضح للمال السياسي وتغاضي السلطة عنه وتماهيها معه، وحدوث تجاوزات وخروق، جعلت بعض النتائج محط شك كبير، كلها عوامل ساهمت في الوصول إلى هذه النتائج، لكنها عوامل ثانوية- إذا ما قارناها بالأسباب الذاتية- وبعضها ليس جديدا، وكان حاضرا بقوة عام 2016. لكن مخططات طحن “العدالة والتنمية” وجدت حزباً قوياً ومتماسكاً وملتفاً حول زعيمه حذر السلطة في الوقت المناسب، وأصدر بياناً شديد اللهجة قبل ساعات من إغلاق مكتب الاقتراع، ووجه وزير قوي في الحزب إنذاراً عبر صفحته على “فايسبوك” بعد المسيرة الشهيرة التي نظمتها أطراف داخل السلطة ضد “العدالة والتنمية”، قبيل الانتخابات حينئذ.
تعطلت آليات المقاومة هذه المرة، جاءت الانتخابات ووجدت الحزب ضعيفاً ومنقسماً ويعاني من شرخ تنظيمي على مستوى القيادة والقواعد، فتراجعت الحماسة وامتنعت فئات واسعة من شباب الحزب عن الانخراط في الحملة الانتخابية، كما دفعت الأزمة الداخلية فئة كبيرة من الذين التحقوا بالحزب في فترة توسعه وقوته ومجده الانتخابي إلى مغادرته إلى وجهات أخرى، للنجاة من سفينة على وشك الغرق.
دعونا نتفق أن أكفأ محلل سياسي أو عالم اجتماع في المغرب هو وزارة الداخلية، فهي وحدها تملك المعلومات والمعطيات والأرقام، هل كان تحليل وزارة الداخلية يتوقع هذه الهزيمة المدوية للإسلاميين؟ هناك أطروحة تقول إن حتى مهندسي المشهد الحزبي والانتخابي لم يتوقعوا هذه الخسارة، والغرض من عملية التحكم السلطوي في المشهد الانتخابي أتى بنتائج عكسية على السلطة نفسها، التي لم يكن طموحها يتجاوز رغبة تحجيم “العدالة والتنمية” لا تغييبه بشكل شبه كامل عن المشهد.
هذه فرضية قد تُبنى على وجاهة، لكنها هي الأخرى غير علمية في بلد غير قابل للتحليل علمياً، لأننا لا نملك أي أفكار دقيقة عن مزاج السلطة وخططها بالنسبة إلى الإسلاميين خارج البدهيات والعموميات التي تقول إن السلطة لا ترغب بالإسلاميين، وأنها اضطرت استثنائياً إلى التطبيع والتعايش معهم، وهذا يعيدنا إلى نقاش قديم، هل تمتلك السلطة- وهي ملتصقة تماماً بالدولة في المغرب- نظرية سياسية من الأساس؟
الثابت، أن قيادات “حزب العدالة والتنمية” في العهدين التسييرين معاً (عبد الإله بنكيران – سعد الدين العثماني)، مع بعض الاختلافات، كانت تتفاعل إيجابيا بالموافقة الضمنية أو الانحناء أو التسليم بالأمر الواقع في معظم المحطات مع استعمال الدولة ما تعتبره “حقاً شرعياً” في التدخل في العملية السياسية، وذلك راجع بالأساس إلى فكر الإسلاميين.
في الصورة العامة لم يبد الإسلاميون مقاومة شرسة لمحاولة تحجيمهم، وكانوا يتعايشون مع الوضع حتى على حساب تماسك حزبهم، وبسذاجة كبيرة بالغت قيادة الحزب في الحكومية الأخيرة في تصديق (وتضخيم) أن السلطة لا تزال في حاجة إلى “حزب العدالة والتنمية” في موقع التدبير، وأنه وعلى رغم اعتماد القانون الانتخابي الجديد الذي بدا كاستهداف واضح للحزب، فإن السلطة تريد أن تحافظ له على وزن معقول ومقبول، لأن رحيله قد يزيد من شرعية جماعة إسلامية أخرى أكثر عدداً وتنظيماً، وتشتغل خارج المؤسسات وهي جماعة “العدل والإحسان”.
بل واجتهدت قيادة الحزب بإفراط كبير في تقديمه كحزب تدبيري طبيعي عادي، لا يحمل أي شعار سياسي، حتى صار التفريق بينه وبين أحزاب الإدارة أمراً مستعصياً، فدخل “حزب العدالة والتنمية” الانتخابات كغيره من الأحزاب، بل إن أحزاباً شاركته التدبير الحكومي رفعت شعارات وبرامج للتغيير، وكأنها لم تكن جزءاً من التجربة أو من مشهد سوء إدارة أزمة “كورونا”، بينما كان تقدير “حزب العدالة والتنمية” الابتعاد من أي خطاب سياسي أو سجال انتخابي مكتفياً بالدفاع عن “الحصيلة”.
نهاية صلاحية “الفرصة الثانية”
اختفى ذلك التمايز الذي كان يظهر للجمهور بين بقية الأحزاب، حزب يرفع شعار الإصلاح من الداخل، يقول ولو شعاراتيا إنه مختلف عن البقية. فلماذا يصوت الناس مجدداً لحزب مثله مثل غيره؟
كان التصويت للحزب يأتي من فئات واسعة لا تلتقي معه فكرياً عام 2016، على رغم خيبة الأمل الكبيرة من تجربة قيادته الحكومة، بسبب عدم دفاعه عن تأويل سليم للدستور والقرارات الاجتماعية القاسية التي اتخذها وتضررت منها فئات مختلفة، بمثابة فرصة أخيرة تمنح لحزب ما زال، برغم كل شيء مختلفاً في مخيال مجموعات واسعة من الناس. وقد لعب الأداء التواصلي والخطاب الصدامي والحماسي لزعيم الحزب عبد الإله بنكيران، دوراً كبيراً في إقناع جماعة كبيرة من هذه الفئات. الذين دافعوا عن الحزب قبل 5 سنوات تخلوا عنه اليوم، تركوه لمصيره حتى وهم يروا أظافره تقلم بشكل أكثر قساوة مما كان عليه الحال قبل سنوات.
تتكون هذه الفئات التي خاب أملها من جموع غير قليلة من الطبقة المتوسطة المدينية، التي رأت في الحزب بديلاً لم يتلطخ بعد، يتمتع بنظافة اليد وهو قادر على قيادة تغيير هادئ في مشهد ينخره فساد الحياة العامة وعلى الحد من أزمتها المتفاقمة في عهد الحكومات المتتالية، راهنوا عليه كما راهنوا سابقاً على “حزب الاتحاد الاشتراكي”، لكنه خيب الآمال بل ودخل وزراؤه في صدامات كلامية مجانية تنم عن سوء تقدير كبير.
واعتقدت فئات أخرى بقدرته على دفع النظام إلى إصلاح سياسي حقيقي وتوسيع الهامش الديموقراطي واحترام حرية التعبير وحقوق الإنسان، لكنها لاحظت وسجلت كيف تصاعد التضييق على المدونين والحقوقيين وقمع الحركات الاحتجاجية واعتقال الصحافيين المستقلين وقمع الصحافة الحرة، التي كان وجودها عملياً في مصلحة الحزب، وكانت تمثل ممانعة موضوعية ضد أصوات استئصال الإسلاميين من المشهد، وضمانة للتوازن، وقد رأينا كيف تقلص حجم الحضور الإعلامي للحزب في الصحافة بشكل كبير في مقابل تضخيم مساحات حضور خصومه.
لم يقف “حزب العدالة والتنمية” بكل تأكيد خلف هذه الانتهاكات لأن مجال تدبيرها موجود خارج هوامش تحركه داخل المؤسسات، لكنه يتحمل مسؤوليتها المعنوية لأنه وفر لها الغطاء السياسي والمؤسساتي، بل ودافع عنها وزرائه بضراوة وبوقاحة في أحايين كثيرة.
أخلاق الإسلاميين مثلها مثل أخلاق الآخرين…
كانت لحظة تعامل الحزب مع طرد بنكيران من مهمة تشكيل الحكومة عقب انتخابات 2016 بداية انهيار ما تبقى من تعاطف مع “حزب العدالة والتنمية” من خارج قاعدته، كانت لحظة توتر كبرى كشفت هشاشة رواية “وحدة صف الإسلاميين” كيفما كانت الظروف، إذ عجز التنظيم عن إنتاج جواب جماعي حول المرحلة، واستمر الحزب منقسماً على نفسه، وتعمقت الخلافات الداخلية بين تيارات متنافرة طيلة فترة قيادة سعد الدين العثماني للحزب، ووصلت إلى حد الخصومة والمقاطعة الكلامية.
رأى الناس كيف تخلى إخوان بنكيران عن أخيهم وهرولوا إلى قبول أنصاف الوزارات والمناصب في حكومة مثل فيها الحزب أقلية، فكيف يمكن الدفاع عن حزب يخون أبناؤه بعضهم بعضاً تماماً مثل الآخرين، وهذا سيناريو معاد سبق أن شوهد مع الاتحاد الاشتراكي. أي جدوى من التصويت لحزب اكتسح الانتخابات وتحول إلى مجرد تكملة عدد، حزب اختارت قيادته بخطها الجديد المضي قدماً إلى الأمام وكأن شيئاً لم يحصل؟!
ولمثل هذه الرمزيات وقع كبير قد يكون أكبر وأكثر صدمة من قساوة بعض القرارات التي اتخذتها الحكومات التي قادها “العدالة والتنمية” والتي تضررت منها فئات لا حصر لها.
الأدهى من ذلك أن عقل الحزب طيلة فترة الولاية الحكومية الثانية دخل فيما يشبه عطالة فكرية، ولم ينتج أي خطاب سياسي أو أطروحة فكرية جديدة تبرر هذا التراجع، وتحول إلى حزب انتظاري تديره شريحة ضيقة تقرب الموالين و تحجر على الأصوات الغاضبة في صفوفه عن طريق هندسة تنظيمية بيروقراطية توحي بوجود مساحات للاختلاف. وساير الحزب قرارات وخيارات كبرى للدولة تتخذ خارج الأغلبية الحكومية التي يقودها، وكان يتحمل مسؤوليتها شعبياً لوحده بسبب ضعف الأداء التواصلي للعثماني الذي كان يظهر كضيف في الحكومة التي يقودها، فضلاً عن قلة خبرة وزراء الحزب، الذي حملته ظروف استثنائية إلى مواقع مسؤولية لم يكن أبداً مستعداً لها ولم يكن بالنضج الكافي لتدبيرها.
ساهمت في ذلك بلا شك آلة دعائية و تواصلية جهنمية ومنظمة صرفت السلطة والأحزاب الموالية أموالاً طائلة لها وبذلت جهداً كبيراً عبر الهيمنة على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، واستطاعت الاستثمار في غضب فئات اجتماعية متباينة من السياسات العمومية، لتسطيح الرؤى وخلق رأي عام معاد للحزب وإظهاره وكأنه وحده مسؤول عن فقرهم وجوعهم.
غير أن ذلك لم يكن ممكناً تحقيقه لو لم يقدم الحزب وقياداته هدايا مجانية لهذه الماكينة والسرديات التي تنتجها وترسخها في العقول، حينما يرى الناس مثلاً وزيرين من الحزب المثالي جداً، لا يصرحان بمستخدميهما لدى صندوق الضمان الاجتماعي، أو آخر تطغى أخباره مع عشيقته على أخبار مهمته الحكومية، إلى آخرين استغلوا بشكل أو بآخر انتماءهم للحزب للترقي المهني وولوج أسلاك الوظيفة العمومية أو استفادوا بشكل أو آخر من صفقات عمومية، فإن ذلك لا يمكن سوى أن يساهم في الإضرار بصورة الصفاء والنقاء وتبديد الرأسمال الرمزي والأخلاقي للحزب داخل المجتمع.
إطلاقاً، لم يكن الإسلاميون الساسة الوحيدين في البلاد المستسلمين لنزوات فردية عابرة، أو لإغراءات السلطة وامتيازاتها، وهم بالتأكيد ليسوا أسوأهم، وإذا ما قورنوا بآخرين فإن المقارنة على الأرجح ستكون في مصلحتهم، لكنهم يعاقبون ويتعرضون للتنمر وحدهم لأنهم إسلاميون، يرفعون شعار إصلاح أمور المجتمع ويدعون إلى الفضيلة، بينما تناقض تصرفات بعضهم في الواقع جميع هذه الشعارات.
الاصطدام مع “الأوهام المؤسسة”
لكن الاختبار الأكثر ألماً الذي واجهه الإسلاميون المغاربة، كان الاصطدام ببعض الطوباويات المرجعية والهوياتية المؤسسة لحزبهم وللحركة التي ينحدر منها، وهذه عقدة الولادة والنشأة، وهي واحدة من عناصر الفهم الممكنة، لأن جيل التأسيس الذي قام بالمراجعات وأصل لاجتهاد العمل السياسي الإصلاحي من داخل المؤسسات في إطار المرجعية الإسلامية، هو نفسه من دبر هذا الانتقال المفاجئ إلى موقع قيادة التدبير الحكومي.
لم يكن الإسلاميون جاهزين لهذه الصدمة النفسية الكبرى، يشبه ذلك الخروج للمرة الأولى من الأرياف إلى المتروبولات، كان موقع المعارضة يسمح براحة خيالية وبخطاب عاطفي ونموذجي يدافع عن تطبيق المرجعية الإسلامية داخل المؤسسات، لم يكتشف الحزب الحديث بالتدبير أنه لا يستطيع الالتزام بتطبيق المرجعية الإسلامية من موقعه الجديد فحسب، بل أصبح مضطراً إلى اتخاذ قرارات مناقضة لهذه المرجعية ولتراثه النظري في قضايا هوياتية كبرى، كما حدث خلال الولاية الحكومية الثانية في قضايا: التطبيع مع إسرائيل، تدريس المواد العلمية بالفرنسية، تقنين الحشيش لأغراض طبية.
لم يكن العقل النظري للحزب جاهزاً لمثل هذه التحديات التي اصطدم بها في الطريق، ولم يتوقعها مثل مدرب فريق لم يكن يتوقع طرد أحد أبرز لاعبيه من المباراة ولم يجهز خطة بديلة لهذا السيناريو.
لم يحضر العدالة والتنمية أي جواب فكري أو اجتهاد نظري يمكنه أن يواكب أو يساير هذه الهزات المدوية. فدفع الحزب ثمن ذلك غاليا، ليس فقط بفقدان كتلته الناخبة من خارج منخرطي الحزب وجذوره وامتداداته والتي كانت تصوت لصالحه من منطلق عقائدي باعتباره ممثلا ل الحد الأدنى من “الحلم الإسلامي” ومدافعا عن الهوية، ولكن كذلك بتخلي “التوحيد والإصلاح” (20 ألف منخرط) -وهي الحركة الدعوية التي خرج من رحمها- عنه في هذه المحطة الانتخابية وامتناعها عن الحشد له، عقابا له على انحرافه عن المرجعية، فيما يبدو كعنوان لانهيار هذه الشراكة بين الطرفين، فإما أن يعود حزب العدالة والتنمية إلى أصوله وحركته وخطابه الهوياتي، وإما أن تبحث حركة التوحيد والإصلاح عن حزب جديد يدافع عن المرجعية التي فرط فيها حزب العدالة والتنمية من مركزه كفاعل سياسي تخضع مواقفه للنسبية والبراغماتية.
وإذا كان الحزب استطاع إلى حد ما عبر المجهود الخطابي لزعيمه بنكيران امتصاص بعض الأصوات الغاضبة من شباب الحزب من تخلي الحزب عن الحرص على تطبيق الدستور وبرنامجه السياسي بإنتاج خطاب مواجهة التحكم الذي أفضى إلى نتائج انتخابية باهرة، فإن المواقف التي أنتجها الحزب في القضايا الهوياتية كانت قاصمة، وغير قابلة للتبرير على المستوى الداخلي.
حتمية انسحاب المؤسسين
هل انتهى “حزب العدالة والتنمية”؟ يبدو السؤال مشروعاً بالنسبة إلى حزب لا يريد التحول إلى قبيلة ملعونة. المحن ليست جديدة على الإسلاميين في المغرب، لكن الضربة هذه المرة عاصفة خريف لتنظيم قامت قوته على ضعف الآخرين والتفوق الأخلاقي عليهم.
القيادة المتمثلة في جيل تأسيس الحركة الإسلامية يبدو أنها أنهت دورة حياتها، ومهمتها داخل التنظيم وأضحت عائقاً كبيراً وجزءاً من ورطة سيكون من العبث والوهم الاعتقاد بأن تجاوزها يمكن أن يحصل مجدداً باستمرار عرف التناوب بين التيارات من داخل البنية والعجينة المعروفتين، خصوصاً مع بلوغ الخلافات ذروتها بين هذه القيادات، خلافات اكتسبت في كثير من الأحيان طابعاً شخصياً ومحكومة بعقد نفسية قديمة وموروثة من النشأة.
نجحت القيادة التاريخية للإسلاميين في تحقيق انتقال وتحول مهم وهادئ للحركة الإسلامية من العمل غير الشرعي إلى الاندماج التدريجي في العمل السياسي، ونقلت الحركة من جماعة منغلقة على ذاتها إلى حزب سياسي دنيوي يخرج إلى المجتمع بحسناته وعيوبه، ودبرت علاقتها مع السلطة بمنطق محافظ سياسيا عنوانه المهادنة الاستراتيجية بنوع من الهواية أحياناً، وبرعونة في أحيان أخرى. وكان الحزب يبرر ذلك داخلياً، بحجة أن على الدولة ضغوطاً كبيرة من حلفاء استراتيجيين لها في الخارج لإنهاء تجربة الإسلاميين. قدم الحزب خدمة كبيرة للنظام السياسي، ودافع عنه ووفر له المشروعية ونذر نفسه للدفاع عن “استقراره”، ونفذ استراتيجياته ومشاريعه الكبرى، ودافع عنها بشراسة إعلامياً، حتى على حساب رصيده الشعبي أو تماسكه الداخلي، لكن ذلك كله لم يشفع له ليصبح كما كان يأمل شريكا لـ”الدولة” أو في تجاوز الحواجز النفسية بينه وبين دولة لا تثق في أن للإسلاميين مشروعاً آخر غير السيطرة الناعمة على مؤسسات الدولة واختراقها لتنفيذ أجندتهم الأيديولوجية، ولم تنجح ممارسة الإسلاميين في الميدان والواقع ولا أخذهم مسافة واضحة مع بقية تجارب الإسلام السياسي في المنطقة، في تبديد هذه الشكوك ومحاكمات النيات التي عرضوا لها.
في المحصلة الأخيرة، أدار الحزب تجربة عقد من التدبير، بمنهجين مختلفين تماماً، بنكيران الذي كان يفعل كل ما تقوله السلطة لكنه يتحول إلى معارض في نهاية الأسبوع ويحافظ على لمعان حزبه بصراخه، مذكراً الناس بأنه رئيس حكومة وليس وزيراً أولاً، والعثماني الذي اعتقد أنه بصمت القبور الذي انتهجه أملاً بعدم إزعاج دوائر السلطة سينجو من مصير سابقه.
لكنهما رجلان من داخل النسق العتيق ذاته، لقد حقق الجيل الأول الغرض من وجوده وهو البحث عن حياة سياسية للإسلاميين، لكنه فشل في إنتاج خطاب ومضمون يوفران بيئة مناسبة للاستمرار والنظر إلى المستقبل.
والإسلاميون اليوم في حاجة إلى حل جذري وخيال مغاير، إلى تأسيس جديد، إلى أفكار وسطية، فهل ستجعلهم يتبنون تصوراً جديداً لأطروحة “البناء الديموقراطي”، في محاولة جديدة لخلق الندية وإضفاء الإثارة، أم ستدفعهم إلى الحسم في خيار التخلي نهائياً عن الفكرة الإصلاحية والتسليم بالأمر الواقع؟ هل سيذهبون إلى السياسة وواقعها العلماني، أم سيعودون إلى خطاب يمزج بين الدعوة والسياسة والاحتجاج؟ لكنهم لا يملكون مفتاح تحديد مستقبلهم وحدهم، ذلك مرهون أيضاً بسلوك السلطة تجاههم وهم في حالة الوهن الشديدة هذه.