في ذكرى رحيله..سيد قطب مُلهم الإخوان ومرجع الحركات الجهادية
عندما نتذكّرُ سيد قطب، الذي صادفت ذكرى وفاته قبل أيام، لا شك، أنّنا نتذكّر معه تلك العاطفة التي اشتعلتْ بداخلنا جرّاءَ عنفوانِه وانفعالِه ومعالِمِه التي لخّصها، لتكون مرشداً لطريق المسلمين في العالم الحديث؛ فقد كانت مرجِعاً مهمّاً للحركات الإسلاميّة والجهاديّة في العالم العربي، وعلى نموّها وتطوّرها في ممارسة العنف ضد الواقع.
كان قطب تحولاً داخليّاً كبيراً في حركة الإخوان المسلمين، وهو الجسرُ الذي عبرتْ من خلاله الجماعة إلى قلوب وعقول الكثير من الشّباب؛ خصوصاً أولئك الذين أصبحوا قادةً للتنظيمات الجهادية مثل؛ عبدالله عزام، الذي كان يقولُ في خُطبه -وهي متوفرة في مواقع الجهاديين- أنّ سيد قطب هو الذي وجّهه فكرياً بجانب ابن تيمية الذي وجّهه عقائدياً. وكذلك صالح سريّة وهو أوّل من باشر العنف الدّيني من جماعةِ الإخوان المسلمين، إذ كان شديد الإعجاب بسيّد قطب، ونقل في كتابه حول الإيمان جوهر ما يتصوّره سيد قطب، وهو أنّ البلاد التي اتّخذت منهجاً غير الكتاب والسُّنة “كافرة”، ويُضيفُ صالح أنّ من يطيع الأنظمة التي تحكم هذه البلاد “كافر”ٌ أيضاً.
كانت دعوة سيد قطب للتغيير تبدأ بتطبيقِ الشريعة الإسلامية، وهو الشّعار الأساسي عند كل الحركات الإسلامية، ولكنّ هذا لا يتحقق عند قطب إلّا بإزالة كافة الأنظمة الحاكمة التي تحكم بغير الشريعة. ولتحقيقِ ذلك كانت الوسيلةُ الأكثر إغراءً وعاطفة لإزالةِ هذه الأنظمة هي الجهادُ ضدّها، باعتبارها دارَ كُفرٍ وجاهليّة معاصرة، استناداً إلى مبدأ الحاكمية الذي صكّه أبو الأعلى المودودي.
صنعَ سيد قطب عالماً دينياً رمزيّاً، حشدَ فيه الأدبَ والشِّعر و القرآن والحديث. فكان مرجِعاً مهمّاً للحركات الجهاديّة التي بدأتْ تظهر منذ أواخرِ القرن الماضي؛ حيثُ كان موقفُ سيد قطب حاضراً في أدبياتهم ومبادئ حركاتِهم المختلفة، على عكس المحاولاتِ اليائسة لتبرئةِ قطب منها. فقد نجح قطب بصورةٍ كبيرة في صناعةِ أيديولوجيا دينية تحرّك مشاعر المسلم النافرة من العالم الحديث وأشكال الحياة فيه. كما أنّ علاقة الحركات الجهاديّة بقطب ليست بالضرورة أن تكون مباشرة من خلال الاقتباس، فهي أيضاً قائمة من خلال تبنّي التوجّهات؛ فكُلّ حركة تتبنّى الجهاد في مواجهة الأنظمة القائمة أو النظام الثقافيّ الحديث والسياسي، فهي تتماس مع سيد قطب وتكون امتداداً لما فجّره.
أخطاء منهجية
إنّ نظرةَ سيد قطب ذاتُ طابعٍ تأريخيّ للتاريخ الإسلامي في أشكاله المختلفة؛ الثقافية والمعرفية والسياسيّة، على وجه الخصوص، فاعتبر أنّ ما يقولُه عابرٌ للزمن البشريّ، ومُتعال عليه لمجردِ احتكاكه بالمُقدّس، فإزالة الأنظمة لمجرّد أنّها لا تقومُ على أسسِ الشريعة الإسلامية ولّدَ الاعتقادَ أنّ مسألة الخلافة كمقابلٍ للنظام السّياسي الحديث أمرٌ إلهي لا اجتهادٌ سياسيّ، وشكلٌ من أشكال تداولِ السلطة.
فأصبحت أمراً تُسَلُّ له السيوف وتُعدّ له الجيوش من قِبل الحركات الجهادية، تماماً كما فعلتْ داعش مؤخّراً؛ فهي الأفق النّهائي لأفكار سيد قطب عن الدّين والدّولة والسّياسة والثّقافة، فقد أرادتْ داعش إقامة دولةٍ للإسلام على نظام الخلافة والشّريعة الإسلامية، ولكنّها سرعان ما انهارتْ بحُكم التناقض البُنيويّ الذي يلفُّ مسألة إقامةِ دولةٍ بمعايير ما قبل حديثة في عالمٍ حديث.
إنّ لا تاريخيّة سيد قطب تجعلُ المسلمَ يقاتل السّراب لأجل السّراب؛ إذ يؤمن بفرضياتٍ غير حقيقية ولا تمتلك لذاتِها قوّة تجعلُها سهلة التّحقق في الواقع، ويستمرُّ في حالةٍ قتاليّة لا نهائيّة؛ لأنّ فرضيته تقومُ على قياسٍ متعذّرٍ للحاضر على الماضي، كما يحاولُ دائماً أن يجعلَ الحاضر صورةً مماثلة للماضي الذي هو ماضٍ مُتخيَّل، لا يقومُ على دراسةٍ تاريخيةٍ أو معرفية، إنّما مجرّد علاقة عاطفية تُشعرُهُ بالتضامن النفسيّ بأنّ له ماضياً تليداً وعريقاً يجب إعادته وفرضُ قِيمه على الحاضر، حتى وإن كان الثمن هو الكثير من الدّماء والكثير من العنف، بل ويصبحُ المسلم على استعدادٍ للموت من أجل هذه التّصورات اللاتاريخية، وهو بذلك ميّتٌ لا محالة، فليس ثمّة إمكانٍ لتطويع هذا النهر الجاري والذي يُسمّى الحاضر، لأجل الماضي.
ثمّة لَبسٌ كبير وتضليل تمارسه الكثيرُ من الحركاتِ التي ترفعُ شعار الشريعة الإسلاميةَ؛ إذ إنّ جهازها المفاهيمي والبراغماتي هو الذي يحدّدُ طبيعةَ هذه الشريعة وماهيّتها ومدى قدرتِها على الاستجابة لتحدّيات الواقعِ العربيِّ والإسلامي، فهي شعارٌ غارقٌ في العموميّة. إلّا أنّ سيد قطب حاول أن يُحدّد له معالم. فكانت البداية تأسيسُ جبهاتٍ ومناعةٍ دينيّة للعنفِ السياسيّ؛ فالشريعة في ذاتِها لا تملكُ رؤىً متكاملة عن الدولة أو السياسة أو الثقافة، كما أنّها محلُّ دراسةٍ وفهمٍ وتدبّر، وليست ناجزة إلّا في عقول من حوّلوها إلى أيديولوجيا للحشد السياسيّ. ويتضّح لك من خلال ما كتبه قطب في كتابه “معالم في الطريق”، مِن أنّ وضْع تصوراتٍ للشريعة سخريّة هازلة؛ إذ يرى أنّه يجب أنْ تخضعَ هذه المجتمعات للشّريعة أولاً ومن ثم يمكنُ وضعُ رؤىً وتصورات لها، وهذا بطبيعة الحال خطأٌ منهجيّ واضح؛ إذ كيف يمكن للإنسان أنْ يخضعَ لِما لا يمكنُهُ تصوّره واقعياً ومعرفته عقلياً؟ فالحُكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره بتعبير الأصوليين، وهذا على عكس ما يذهبُ إليه قطب في “المعالم” بقولِه “إنّ المؤمنين نظرياً يدعمون المجتمع الجاهليّ” لذلك وفي ذاتِ الكتاب يدعو إلى صناعة مجتمعٍ خاصّ بالجماعة المؤمنة بأفكاره، ومن ثم تدعو الآخرين إليه. ورغم ذلك ستجد من يدافعون عن سيد قطب من باب العاطفة، محاولين إبعادَه عن الحركات الجهاديّة التي أفرزتها تصوّراته.
المصدر: المقال منقول عن موقع حفريات