مرثية الشاعر “صلاح ” لعزيزنا الوديع الذي غادرنا في غفلة منا..لماذا غَدَرْتَ بي يا أخي، يا رفيقي العزيز؟
هاأنت تغدر بي لأول مرة في حياتك.
تغدر بي كي تغادر. توليني ظهرك وتلقي وراءه بكل رقتك وأدبك ودماثة خلقك وتواضعك وروح التضحية المتأصلة فيك.
تتنكر لكل هذا وتمضي. لا تفسحُ الطريق لي كما تعودتَ، كي أمر أنا قبل أن تمر أنت وأتصدر المكان وأتحدث باسمي وباسمك وأنت تنظر إلىَّ نظرة المطمئن على ما ائتمنتني عليه.
ألست تذكر كيف كنتَ نموذجيا في كل شيء؟ في مسؤوليتك التنظيمية وأنت تشرف على نضال الشباب التلاميذي في بداية السبعينات في كبرى مدن المغرب وأنت لم تتجاوز بعد سنتك السادسة عشرة؟ ينصتون إليك كلهم. ينصتون إلى صدقك وذكائك وألمعيتك وكفاءتك. وينصتون إلى صمتك الحكيم الذي كان يتحدث عنك حينما تصمت الكلمات.
ألست تذكر ونحن – أنت وأنا والآخرون – في بطن الوحش المسمى “درب م الشريف”، كيف كنت بطلا بكل المعاني وبكلمات كل المعاجم، تتلقى الضربات وتحمي أسرار رفاقك وتتحمل عنهم العسف في شجاعة قل نظيرها. حتى أنا كنت تحميني منهم مع أنني أكبُرك سنا، فتعمل جاهدا كيْ تُبعد الشبهات عني وتنسبها لنفسك، حتى تخفف عني… لكنك، في الواقع، كنت تكبرني في التضحية والعطاء بلا حدود…
وحتى بعد فترة الجحيم ذاك، لم تتحدث عما فعلته من أجلي، ولم تذكره أبدا حتى في أحاديث الاسترجاع بيني وبينك…
ألست تذكر كيف كنتَ خلال السنوات العشر هناك، متعادلا مع روحك الفياضة بالحب والإيثار، منتصرا على لحظات الشك والتردد، منهزما أمام مشاعرك الفياضة بالود…
أحدثك بلغة كرة القدم التي كنت عاشقها المتيم، بل كنت لاعبا ماهرا اخترت منذ البداية موقعا في رقعة الملعب هو متوسط الدفاع، تسترجع الكرة بذكاء وخفة دون أدنى عنف وتعيدها إلى أصدقائك بتمريرات ساحرة غاية في الدقة لي يسجلوا ما شاءت لهم الكرة وأنت تكلؤهم برضاك وتشجيعاتك وابتسامتك المنتشية…
هكذا كنتَ في الحياة تماما، تبني في صمت وتوفر للآخرين فرص التحقق والاكتمال…
طوبى لك ولجيلك الذي واجه العسف والظلم ولا سلاح له سوى صدره العاري. لا سلاح له سوى الكلمة. تلك الكلمة التي كانت تنضح بالسخرية بين أناملك. تطوِّعها. تشحذُها. تعيدها إلى بريقها الأول. إلى صدقها اللافح. إلى معناها الخفي. إلى مرماها الأصيل. وتجعلها قادرة على قول ما تخفيه الصدور حين يتغول الطاغية لتتركه عاريا أمام الجمع مسربلا بالخجل التاريخي الذي يكشفه كما هو، عاريا من كل مضغة آدمية.
عزيز. رفيقي. صديقي الذي لا يعوَّض…
أحمل من رفاتك نصيبي وأترك للباقين من رفاقك نصيبهم المشروع منك، كي نمشي نحو الأفق الذي اخترته منذ صباك، أفق الآدمية والأخوة بين كل بني البشر…
أحمل نصيبي منك وأمضي.
وتصيرُ كينونتي علامةَ وفاءٍ لك ولحياتك وتضحياتك وكفاحك وكتاباتك ولكل شيء جميل فيك، وعلى رأسه اليوم أجملُ وردةٍ تركتَ لنا بعدك. وردة تحمل اسم: بثينة الوديع.
أحمل كل هذا وأمضي…
فيا أيها الكونُ، أَنصتْ لهمسي وصراخي. فقد أصبح لهما منذ اليوم اسمٌ آخرُ إلى الأبد: عزيز الوديع.
مقبرة الشهداء – 4 شتنبر 2018