رواية عن عالم الاغتراب واجتراع الأوطان البديلة في أميركا “تغريبة وطن” لمحمد العزير
تجارب المهاجرين اللبنانيين والعرب في بلاد الحلم
بقلم عبد الرحيم التوراني
أن تتحول من صحفي اإلى أديب يبدو أنها صيرورة في هذا العصر، مع انكفاء الصحافة، ولجوء عدد من الصحفيين المخضرمين إلى خوض التجربة الكتابية الروائية، وقد شهدنا في لبنان ثلاث تجارب مميزة لثلاثة زملاء: جنى نصر الله وفارس خشان اللذان أصدرا أكثر من عمل روائي، و
الذي أصدر باكورة أعماله رواية “تغريبة وطن”، وهي تحكي وقائع وأحداث معروفة ما زالت تعيش في الذاكرة.
يسرد العزير في روايته حكايات اللبنانيين الذين هاجروا إلى أميركا، وهو واحد منهم، في سبعينات القرن الماضي، وهي مرحلة مفصلية مع بدايات الحرب اللبنانية وتدافع اللبنانيين للخروج من وطنهم بحثا عن الوطن البديل، ولقاء مهاجرين عرب لكل قصته ودوافعه، إذ يرصد الكاتب مسار تكوين الجالية العربية في مدينة ديربورن بولاية ميشيغن، ويعرض تجربة أكبر تجمع سكاني عربي خارج الشرق الأسط، بأسلوب أدبي، تسيطر عليه منهجية الصحفي التي تذهب إلى التحليل ورصد الأحداث المؤثرة في حياة أبطال، لا سيما أحداث 11 سبتمبر، التي أعادتهم إلى الوراء بعد جهود بذلوها للاندماج في المجتمع الغريب على مدى سنوات والتفاعل مع المجتمع الأميركي، وفرضت عليهم منطقا مختلفا، وهو العودة إلى الارتباط أكثر فأكثر بواقع البلد الأصل.
كل إيقاعات الرواية الواقعية في أحداثها، تعكس حياة المهاجرين المقسمين بين هويتين: الوطن الأم والوطن الجديد في ولاية ميشيغن، صور متعددة وقصص لا تغفل خيط الأحداث الحقيقية التي رافقت سنوات الهجرة في زمن الحرب، ولا تغيب تناول التحولات المؤثرة سواء تلك المتعلقة بالحدث السياسي أم الاجتماعي أم الاقتصادي وتأثير الداخل والخارج، بشكل مباشر أو غير مباشر في تكوين الأحوال الجديدة، في حياة هؤلاء المهاجرين، لاسيما البطلة هدى وهي صوت الكاتب في عرض خاصيته.
طبعا لا يغيب العزير زمن الماضي، فالهجرة من القرية البقاعية “شمسطار”، جاءت بعد عذابات الحروب بقدمها وحداثتها، وانعكاساتها على واقع المغتربين، فمن اليسار إلى التطرف، ومن الانفتاح إلى التشدد الديني والتعصب، تتقلب الشخصيات وتبقى المرأة رمز القوة.
والعزير في روايته يتطرق لموضوع المثلية الجنسية بجرأة، ويتناول أيضا تأثير العادات العربية، واللبنانية على وجه الخصوص، على المحيط الذي يعيشون فيه، بحيث بات نسخة شبيهة للوطن الذي هجروا منه.
تفاصيل كثيرة يكشف عنها الكاتب عن الجالية وولاءات أفرادها والتنافس المشروع وغير المشروع في صفوفها، والابتعاد عن المنطق والاقتراب أكثر فأكثر من التشدد والتعصب الطائفي الذي يقضي على الوحدة ويزيد من الانقسام والتهافت على المصالح في مراكز تديرها الجالية، لتتحول إلى مراكز ترسل الشباب إلى الموت.
في حديث معه أوضح العزير حول دوافع انتقاله من العمل الصحفي إلى الأدب قائلا: “لأني مهاجر وعملي في الصحافة جعلني أنظر إلى المجتمع الاغترابي من جوانبه المختلفة. أعتقد أني محظوظ لأني جئت إلى أميركا في مرحلة مهمة من التكوين العربي الأميركي على المستوى المؤسسي.
النكسة التي أصابت الجالية بعد الهجمات الإرهابية في11 سبتمبر”. ويضيف: “أتمنى أن أجد موطئ قدم في المرحلة المقبلة بعد استعادة التوازن المهني بين الورق والشاشة.
أما بالنسبة للتفرغ للأدب فأنا لا أتصرف على أساس أن محترف ادبيًا بما يكفي لأتفرغ”. وعن روايته يقول: “حاولت أن أعطى صورة واقعية عن حياة المهاجرين في أميركا، غير الصورة الرومانسية الرسمية، وغير الصورة المبالغ فيها من قبل المغتربين أنفسهم، وأن أبين الفارق المعيشي والمجتمعي بين الحياة في بينان والحياة في أميركا.
لكن لم يكن هدفي إيصال رسالة محددة. المغزى من الرواية متروك للقارئ”. ويوضح: “حتى الآن معظم ردود الفعل النقدية جاءت من زملاء ومعلقين في ميشيغن، حيث تجري معظم أحداث الرواية.
لاحظت معظم التعليقات الأسلوب السردي والاهتمام بالتفاصيل والوقائع والتواريخ، وأؤيد هذه الملاحظة لأن اسلوبي متأثر بعملي الصحفي لسنوات طويلة، تعليقات أخرى أخذت على الرواية تناولها بعض الجوانب السلبية في حياة المغتربين وبعض القصص الغرامية فيها”.
وفي الختام يشير إلى أنه يعمل حاليا “على جمع بعض القصص القصيرة لإصدارها في بيروت ربيع العام المقبل”. نذكر أن الكاتب محمد العزير، مولود في بلدة شمسطار في منطقة بعلبك في لبنان عام 1960. تلقى تعليمه في بلدته، قبل انتقاله إلى بيروت في المرحلة الثانوية التي وسمتها بداية الحرب الأهلية، وحاز على إجازة في العلوم السياسية من كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية. عمل محررًا في صحيفة “السفير” اللبنانية لست سنوات، قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1986، ليتولى إدارة تحرير صحيفة “صدى الوطن” في مدينة ديربورن بولاية ميشيغن ويكمل دراسته الجامعية متخصصًا في النظام السياسي الأميركي. نشر العديد من الأبحاث والدراسات عن العرب الأميركيين وتفاعلهم في الحياة السياسية الأميركية. وهو مقيم مع أسرته حاليا في مدينة سكرمنتو بولاية كاليفورنيا منذ العام 2010.