وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار عز الدين الميداوي
في عرض أشبه مايكون بالعرض المسرحي تحت قبة البرلمان، خرج علينا وزير التعليم العالي والابتكار، عز الدين ميداوي، بتصريحات أقلّ ما يقال عنها إنها صادمة، ولكنها في الحقيقة ليست إلا مرآة مكسورة لواقع أكثر فوضوية مما نتصور.
تحرير: جيهان مشكور
الوزير، وكأنه يستفيق لتوّه من غيبوبة بيروقراطية طويلة، ليكتشف أن الجامعات المغربية تتحول يوماً بعد يوم إلى ساحات عبث، حيث الطالب شبح، والأستاذ موظف مُنهك، والإدارة مجرد ديكور عتيق.
جامعات بلا طُلاب، وزارة بلا نظام، وتعليم عالٍ في الحضيض!”
في سياق تصريحاته كشف الوزير الميداوي أن 40% من الطلبة في الجامِعات لا يحضرون امتحانات السداسي الأول، في زمن بات فيه التسجيل بالجامعة مجرد وسيلة للحصول على “المنحة” التي لا تكفي حتى لشراء كتب مقررات، فلا عجب أن تصبح قاعات الامتحانات فضاءات شبه مهجورة، فالطلبة يغيبون، ليس فقط لأنهم غير معنيين بالتكوين، بل لأنهم أدركوا مبكراً أن “الشهادة” لم تعد مفتاحاً لأي باب، أي أن التعليم خاصة منه العمومي، لم يعد منذ زمان وسيلة للاندماج في دورة الإنتاج أو الترقي الاجتماعي.
الهدر الجامعي: أزمة مضاعفة!
من جانب آخر، كشف الوزير عن نسبة الهدر الجامعي التي بلغت 49%، رقم يفوق الخيال، لكنه حقيقي حدّ الإهانة، هذا يعني ببساطة أن نصف الطلبة يغادرون الجامعة دون أن يغادروا الأمية الفكرية، بعضهم يلتحق بسوق البطالة، وبعضهم الآخر يتحول إلى “مؤثر أكاديمي” في منصات التواصل، يُدرّس فلسفة العبث بالمجان، ويتركون الجامعات مع أحلام ضائعة.
هذا الرقم يمثل شهادة وفاة جماعية لمنظومة تعليمية، كفت عن جذب الطالب وتحفيزه وتوفير بيئة علمية حقيقية، فمن يُغادر الجامعة لا يغادرها لأنه ضعيف، بل لأنه “ذكي” بما يكفي ليفهم أن لا مستقبل له داخلها.
فمن الواضح أن هجرة الأدمغة ليست فقط في شكل مغادرة العقول الجيدة إلى الخارج، بل أيضاً في شكل فشل ذريع في احتواء الطلبة على أرض الوطن، أرقام صادمة، لكنها ليست مفاجئة لمن يعرف واقع الجامعة المغربية التي تسير على حافة الانهيار منذ سنوات.
ولكن، أين الخلل؟
الغياب لا يتوقف عند الطلاب فقط، بل يشمل البنية التحتية نفسها، فبحسب الوزير، العديد من الجامعات المغربية لا تصرف الميزانية المخصصة لها، نعم،
الجامعات نفسها التي تعاني من بنايات متآكلة، ومدرجات مكتظة، ومختبرات بعتاد يعود إلى حقبة الديناصورات، لا نظام معلوماتي، لا تتبع، لا تقييم، أرقام الطلبة تقريبية، وكأننا نحسب رؤوس الماشية، لا طلاب علوم وهندسة وقانون، لا تصرف ميزانيتها.. فيما غياب الأنظمة المعلوماتية يجعل وزارة التعليم العالي في غياب تام عن الواقع،
وفي معرض حديثه كشف الوزير أرقاماً تعري الواقع المظلم بشكل صارخ: في المغرب، يمكن أن يصل عدد الطلبة في الجامعة إلى 160 ألف طالب، مع معدل وطني يبلغ 95 ألف طالب لكل جامعة، والمفارقة الأكبر أن عدد الأساتذة لا يتجاوز واحداً لكل 250 طالباً، في حين أن المعدل العالمي المثالي هو أستاذ لكل 10 أو 15 طالباً. هل هذا لا يعكس فشل النظام الأكاديمي لدينا؟ هل هذا لا يدل على تراكمات من الإهمال واللامبالاة؟
ثم يأتي الوزير ليبكي على غياب النظام المعلوماتي:
“حنا وزارة التعليم العالي والابتكار وما عندناش نظام معلوماتي شامل؟! هادشي كيحز فالقلب”. لا يا سعادة الوزير، ما يحزّ فالقلب هو أنكم انتظرتم كل هذه السنوات لتلاحظوا أن الوزارة لا تعرف عدد طلبتها! وكأن الوزير تفاجأ أن السماء زرقاء، أو أن الشمس تشرق من الشرق.
المنحة كحافز وهمي
أما الحديث عن الطلبة الذين يسجلون فقط لأخذ المنحة، فهو اعتراف ضمني بأن الجامعة أصبحت ملاذاً اقتصادياً لا مؤسسة للتكوين، الطلبة يبحثون عن مخرج في نظام لا يضمن لهم لا تكويناً جيداً، ولا آفاقاً بعد التخرج، ولا حتى كرامة داخل الحرم الجامعي..
من الجامعة إلى البرلمان.. عبثٌ يتناسل
حين ننظر إلى حال الجامعة، سرعان ما ندرك أن الأزمة ليست تقنية ولا تنظيمية فقط، بل سياسية بامتياز، فالجامعة، بكل ما تعانيه من تهميش وتفكيك، ليست سوى صورة مصغّرة لمغرب يدار بمنطق “التدبير بالصدفة”، حيث السياسات العمومية تُصاغ بمنأى عن الواقع، وحيث الحكومات تأتي وتذهب دون أن تجرؤ على الاقتراب من جوهر الأعطاب.
الوزير الحالي، كغيره ممن سبقوه، يتحدث اليوم بلغة من اكتشف للتو أن البيت يحترق، ناسياً – أو متناسياً – أن النيران بدأت تشتعل منذ عقود، تحت أنظار نفس الطبقة السياسية التي تكتفي بمراقبة الوضع من شرفة الامتيازات.
فلا إصلاح جامعي ممكن في ظل نظام سياسي يحتقر البحث العلمي، ويهمّش المثقف، ويمنح الريادة لمقاولي الشعارات و”كبار المُؤثرين”.
الإصلاح الجامعي يحتاج لإرادة سياسية
الجامعة تحتاج إلى أكثر من ميزانية… تحتاج إلى إرادة سياسية تعتبر العقل المغربي ثروة وطنية، لا عبئاً على خزينة الدولة، جامعة شانغهاي جياو تونغ.
ولعل المأساة الأكبر ليست في أرقام الهدر ولا في اكتظاظ المدرجات، بل في أننا صرنا نرى هذا الانهيار شيئاً “عادياً”، نتقبله بنفس البرود الذي نتقبل به أخبار الغلاء والبطالة والفساد.
في النهاية، لا يمكن أن نلوم الطالب على الهروب من جامعة لا تعرف حتى عدد طلابها، اللوم الحقيقي يقع على من حوّل الجامعة إلى إقطاعية بيروقراطية، ومشروع فاشل بإدارة مرتجلة.
والسؤال البديهي الذي نُختم به:
متى تتخرج الوزارة من جامعة “الاعتراف بالمشاكل”، لتلتحق بجامعة “الحلول”؟