اقتصادالرئسية

الدلاح المغربي فيروس غامض يضرب المحصول

بينما تُعرض “فاكهة الصيف” في الأسواق المغربية بألوانها الزاهية، يُخفي هذا المشهد واجهة مأساة يعيشها آلاف الفلاحين في صمت.

الدلاح المغربي، الذي لطالما كان رمزاً للوفرة الموسمية ومصدر دخل مهم للفلاحين، يمر هذا الموسم بأسوأ مراحله: مرض غامض يضرب المحصول، والأسواق تنهار، والحكومة غائبة.

إنها أزمة لا تقتصر على الزراعة فقط، بل تُعرّي واقعاً متدهوراً في منظومة الأمن الغذائي، وتكشف خللاً عميقاً في التسيير، ولامبالاة حكومية تهدد ليس فقط الفلاح، بل صحة المستهلك المُعرض لمنتوج قد لا يستوفي شروط السلامة الصحية، وثقة المواطن في المؤسسات.

مرض مجهول يصيب محاصيل “الدلاح”… والحكومة غائبة عن المشهد

شكا المزارعون في مناطق الإنتاج الرئيسية مثل زاكورة، طاطا، سيدي إفني، كلميم، وتنغير، من انتشار واسع لمرض غير معروف أصاب محصول “الدلاح”، وقد تمثلت أعراضه في ظهور بقع داكنة، تفتت اللب الداخلي، وتغيّر طعم الفاكهة بشكل لافت.

ورغم هذه المؤشرات المقلقة، لم تبادر أي جهة رسمية إلى تشخيص الحالة بشكل علمي أو إصدار بلاغ تقني لطمأنة الفلاحين والمستهلكين، وفي هذا السياق، صرّح أحد فلاحي زاكورة: “واش بغيتو المرض ينتقل للناس عاد تتحركو؟ كلشي ساكت، لا ONSSA لا وزارة، وحنا تلفنا بين الخسارة والخوف.”

هذا الغياب غير المبرر للمكتب الوطني للسلامة الصحية (ONSSA) والجهات الفلاحية المعنية، يكشف مرة أخرى عن الخلل المزمن في آليات التدخل المبكر، والمراقبة الصحية الوقائية في المغرب.

أرقام صادمة عن الخسائر وانهيار الأسعار

وفق بيانات رسمية لوزارة الفلاحة لسنة 2023، بلغت المساحة المخصصة لزراعة البطيخ الأحمر (الدلاح) حوالي 43 ألف هكتار، خصوصاً في الجنوب الشرقي والجنوب الغربي، بإنتاج سنوي يقارب 950 ألف طن، فيما يُشغّل هذا القطاع ما يناهز 20 ألف عامل موسمي خلال ذروة الموسم.

لكن الموسم الحالي، وفق تقديرات فدرالية غرف الفلاحة، شهد تراجعاً في المردودية بـ30% مقارنة مع السنوات الماضية، نتيجة المرض من جهة، والاضطرابات المناخية من جهة أخرى.

وقد انخفض ثمن بيع الكيلوغرام الواحد إلى 1.2 درهم؛ فقط في بعض المناطق، بينما تصل تكلفة الإنتاج إلى ما بين 3.5 و4.2 دراهم للكيلوغرام الواحد، ما يُترجم إلى خسارة صافية تتجاوز 65% في الهامش الربحي،. هذا و يُقدّر مجموع الخسائر المالية التي تكبدها الفلاحون هذا الموسم بأكثر من 200 مليون درهم على المستوى الوطني، حسب تقرير غير رسمي لمرصد السياسات الفلاحية والتنمية القروية.

غياب الدعم وتراكم الأزمات: الفلاح الصغير يدفع الثمن

رغم كل الشعارات الحكومية حول دعم الفلاحة التضامنية والجيل الأخضر، لم يتلق الفلاحون المتضررون أي تعويض من صندوق الكوارث أو أي دعم استثنائي.

وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة المغربية خصصت ضمن استراتيجية “الجيل الأخضر 2020-2030″ ميزانية تُقدر بـ 50 مليار درهم، منها 10 مليارات درهم موجهة لتثمين المنتجات الفلاحية وتطوير قدرات الفلاحين الصغار، لكن هذه الأرقام لم تنعكس على الأرض، بل تحوّلت إلى وعود عالقة تُفرغ من محتواها مع كل موسم أزمة.

فوضى الأسواق… والمستهلك آخر من يُحسَب له الحساب

في ظل هذا الواقع، يصبح المستهلك المغربي الحلقة الأضعف، أمام فاكهة مغرية في مظهرها، لكنها قد تخفي مخاطر صحية حقيقية على الجهاز الهضمي والمناعي، خاصة للأطفال والمرضى.

نموذج فلاحي ينهار بصمت

ما يعيشه قطاع “الدلاح” اليوم هو انعكاس لفشل بنيوي في المنظومة الفلاحية المغربية، التي باتت تُركّز على الأرقام المعلنة في المؤتمرات أكثر من مردودية الواقع،

فلا تأمين فلاحي فعّال، ولا منظومة يقظة بيولوجية، ولا دعم استباقي للفلاح الصغير.

لا يملك النموذج الحالي قدرة الاستجابة السريعة ولا الحماية الاجتماعية، وهو ما يطرح تساؤلات مشروعة حول جدوى مليارات الدراهم التي تُضخّ سنوياً تحت يافطة “تأهيل القطاع الفلاحي”.

توصيات واقعية ومستعجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه

من جهتها صرحت “الهيئة الوطنية للزراعة المستدامة”، على لسان خبير القطاع، الدكتور هشام العلوي، الذي أكد على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لإنقاذ الموسم الفلاحي وتأمين استمرارية الإنتاج الوطني، وأوضح العلوي أن أولى الخطوات التي ينبغي القيام بها هي فتح تحقيق رسمي يشمل تعاوناً مع مختبرات دولية متخصصة، بهدف تشخيص أسباب المرض النباتي الذي ضرب محاصيل “الدلاح” بدقة علمية وشفافية كاملة.

وأضاف أن دعم الفلاحين المتضررين يمثل أولوية ملحة، واقترح الإعلان عن برنامج دعم طارئ بقيمة لا تقل عن 250 مليون درهم لتغطية الخسائر المباشرة، وتمكينهم من تجاوز هذه الأزمة الاقتصادية الطاحنة.

وبخصوص تسويق المنتوجات الفلاحية، شدد الخبير على ضرورة إعادة هيكلة أسواق الجملة، وتجهيزها بسلاسل تبريد متطورة ومرافق مراقبة صحية دائمة، لضمان سلامة المنتجات قبل وصولها إلى المستهلك.

كما أكد العلوي على وجوب إلزامية إجراء تحاليل ما قبل التسويق لجميع المنتجات الفلاحية الطرية، خصوصاً في فترات الأزمات الصحية، لضمان جودة وسلامة الغذاء.

وختم بالقول إن إصلاح صندوق التأمين الفلاحي يُعد ضرورة قصوى، مع توسيعه ليشمل الأمراض الفيروسية والتقلبات المناخية، وهو ما من شأنه توفير شبكة أمان فعالة تحمي الفلاح وتضمن استمرارية الإنتاج.

إن أزمة “الدلاح” هذا العام ليست مجرد حادث عرضي، بل جرس إنذار لنظام فلاحي ينهار في صمت، حيث تتحول الدولة من حامية للغذاء إلى متفرّجة على هكذا وضع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى