حتى لا ننسى غزة: تتكلّم الأرض، تصمتُ الخرائط…إيران والالتباس الكبير
25/06/2025
0
بقلم: الاعلامي والروائي خالد أخازي
غزة ليست خبراً عاجلاً…
غزة ليست بنداً في جلسة أممية.
غزة ليست أزمة إنسانية موسمية.
غزة هي المعيار.
من يقف معها اليوم، هو مع العدالة والكرامة…. إما أن تكون فارس الألم أو داعر الكلمة…
ومن يمرّ بجانبها كأنها لا تنزف،
فقد دفن إنسانيته قبل أن تدفن القذائفُ أطفالَها….
حين يُقصف بيت في غزة،
يرتجّ جدار في وجدان كل مدينة عربية.
الوجع لا يحتاج جواز سفر،
ولا تأشيرة عبور إلى الضمير.
الصرخة لا تحتاج تصريحاً من مجلس الأمن،
هي تصعد وحدها إلى السماء،
وتتدلّى،
كسؤال لا إجابة له في قواميس السياسة.
العدوّ يُتقن التوقيت.
يضرب قبل الإفطار،
وقبل النوم،
وفي حفلات التخرّج.
يضرب حيث تسكن الحياة،
لكي يعلن موتها
ويُذيع النشرة بتوقيع: «ردّاً على التهديد».
غطرسة الكيان ليست جديدة.
هي تستمدّ وقاحتها من صمتكم،
من مؤتمراتكم،
من طاولات الحوار المزيّفة
التي يُقدَّم فيها دم الغزّيين كقربان
في سبيل «الاستقرار».
قاعدة العديد ليست قاعدة.
هي استعمار ناعم،
بثوب خفيف،
وعقد طويل الأمد.
أرض قطرية
تحمل بصمة أجنبية
وتدار من خارج الخليج
بذريعة الأمن
وخدمة المصالح المشتركة.
لكن الحقيقة تُقال في صمت الجنود:
أنتم تحت أعيننا، ولسنا تحت حمايتكم.
أمّا إيران…
فقد قلبت قوانين اللعبة…
هناك التباس كبير…
وإن انعشت دماء الأمل في شرايين الشعوب المتعبة من غطرسة أمريكا والكيان الصهيوني..
إيران تجلس عند طرف الطاولة،
وتوزّع الرسائل عبر الوكلاء،
ثم تعود لتبتسم على منبرٍ دولي:
نحن مع فلسطين.
لكن متى؟
وأين؟
وفي أيّ خندق؟
فالشعارات لا تُقصف بها طائرات إف 16،
ولا تُفكّ بها الحصارات.
والنيران التي تندلع في غزة،
لا تُطفئها بيانات وزارة الخارجية.
كلّ غارة على مخيم في رفح
هي استفتاء جديد
على من بقي من الرجال،
ومن خان بأناقته،
ومن خنق صوته بربطة عنق مكتظة بالعار.
رفح ليست فقط مدينة حدود،
هي النقطة الفاصلة بين الحياء والخذلان.
كيف تُقصف أفران الخبز
ويُبكى على الأطلال بلغة الأمم المتحدة؟
كيف يُقطع الماء عن طفل
ثم يُعلن عن اجتماع طارئ «لبحث سبل التهدئة»؟
من يُهدّئ موتاً لم يسترح بعد؟
من يُفاوض على ظلّ شجرة احترقت؟
من يترجم الحدادَ إلى لغة مفهومة
في عالم أصمّ؟
مساعدات إنسانية؟
مصيدة قتلى الجوعى بنيران عدم يقتل طفلا أتى من أجل حانة دقيق…
لا شيء إنساني في قافلةٍ
تمرّ بعد المجزرة.
لا كرامة في طحين يُرمى على بقايا الدخان
وتُلتقط صوره بكاميرا المتعاونين.
لا نريد «إغاثة»
نريد أن يتوقّف الموت.
أين الجامعة العربية؟
في إجازة مطوّلة
من الحسّ
والإحساس.
تكتب البيان رقم 999
وتضيف بنداً جديداً:
“التنديد المتوازن”.
لا شيء متوازن
حين يُدفن رضيعٌ تحت الأنقاض
ويُطلب منّا أن نكون “محايدين”.
الصمت العربي مؤذٍ.
لكن الأسوأ منه
هو الصوت المأجور
الذي ينشر التبرير
ويُحمّل الشعب مسؤولية المقاومة
ثم يُحاضر في «العقلانية».
بعض العواصم لا ترى غزة
لأن تل أبيب تحجب الرؤية
وبعض الميليشيات تقاتل في اليمن وسوريا
لكنها تكتب بيانات حُبّ للقدس
ثم تذهب للنوم في أحضان صفقات الغاز.
الاحتلال يحبّ الأرقام
لكنه يكره الوجوه
يقصف البيت،
ويكتب: “ثلاثة قتلى، أضرار جانبية”.
لكن الأم تعرف أن الرقم اسمه كريم،
وأن الطفلة التي رحلت
كانت تقول لها كل صباح:
“ماما، لا تتركي ضوء الممرّ مطفأ”.
كل بيت مهدوم
هو رواية
وكل جدار مشقوق
هو دفتر يوميات مفتوح
وكل شهيد
هو شاهد
على أن الأرض لا تُباع
وأن الذاكرة لا تُقصف.
إيران تصنع الصواريخ
وتصنع معها خطاباً مزدوجاً
لأعداء ظاهرين،
وحلفاء في الظلّ.
تُرسل العبارات المحسوبة بدقّة
وتنتظر أن تشتعل الجبهة
لتُعيد التفاوض
من موقع أقوى.
وفي بيروت،
يُعاد ترتيب البيانات
بحروف مقاومة
لكنها لا تُطلق إلا حيث يُسمح لها
ولا تتحرّك إلا بإشارة دقيقة
من غرفة لا تطلّ على غزة.
غزة تُشبه القصيدة
التي لا تُنشد إلا إذا كنت صادقًا.
قصيدة لا تُترجم
ولا تُفسَّر
ولا تُقرأ في محافل اليونسكو.
قصيدة تُكتَب على الجدران
وتُبنى بالحجارة
وتُرَدَّد في جنائز الأولياء.
هناك دمٌ لا يجفّ
وطفل لا يكبر
وذاكرة لا تنام.
وكلما صرخ حجر
انكشفت دولة
وتساقط قناع
وتفتّت وهم.
القدس ليست شعارًا.
هي قلب هذا العالم المعطوب.
غزة ليست مجازًا.
هي الحقيقة التي تفضح كل خطابات التنمية،
والرؤى الاستراتيجية،
وبرامج الإصلاح،
وأكاذيب الحياد.
يُقال إنّ الحرب ستتوقّف.
لكنّ السؤال هو:
هل سيتوقّف التواطؤ؟
هل ستتوقّف صفقات بيع المعنى؟
هل ستتوقّف عواصم العرب
عن التصفيق في جنازات أطفالهم
ثم التوقيع على معاهدات لا تُقرأ إلا في واشنطن؟
لا نريد بطولات مزيّفة.
نريد صوتًا واحدًا يقول:
“الاحتلال كذبٌ قائم”.
نريد صحيفة تكتب الحقيقة بلا خوف،
ومدرسةً لا تمجّد القاتل،
ومسجداً لا يُدعى فيه بالنصر،
ثم يُسكت الصوت قبل أن يعلو.
غزة تُحاصر لأنّها لا تُشبههم.
لأنها لا تجيد التهريج السياسي،
ولا تهتف بأوامر الأمن،
ولا تكتب بمداد النفط.