
أنس الشريف الذي لم يكف يومًا عن «دقِّ جدران الخزان»
«أوصيكم ألّا تُسكتكم القيود، ولا تُقعِدكم الحدود، وكونوا جسورًا نحو تحرير البلاد والعباد، حتى تشرق شمسُ الكرامة والحرية على بلادنا السليبة».
من وصية الشهيد أنس الشريف
حبر/ لم يكن من موته بُدٌّ، لكنه لم يمت جبانًا. دخل أنس الشريف حياتنا من باب مأساة غزة. ورغم أنه باب مكللٌ بكثيرٍ من الموت من جانبهم والعجز من جانبنا، إلا أننا أحببناه وصار جزءًا من حياتنا اليومية.
عندما بلغني نبأ موته القاسي أحسست أنني فقدتُ فردًا من عائلتي.
أنس الذي شيعنا معه والده محمولًا إلى مثواه الأخير على عربةٍ يجرها حمار وسط شوارع معسكر جباليا المرصوفة بالركام والأشلاء.
أنس الذي فرحنا من قلوبنا لفرحته بلقاء شقيقته بعد عودتها إلى شمال غزة، ترافقها الحشود التي هرعت جذلى إلى الشوارع مشيًا على الأقدام عبر شارع الرشيد الطويل. والذي بكينا معه رفيقه إسماعيل الغول بعد أن قضى في مخيم الشاطئ، حين نعاه بصوت مبحوحٍ وروحٍ غاضبةٍ. ورغم أنه كان يبكي مثل طفلٍ فقد عزيزًا إلا أنه قال له: «معلش يا إسماعيل، رحّ نكمًل الرسالة من بعدك».
يقال دائمًا إن الحرب تكشف أسوأ ما في البشر، لكن غزة الفريدة والمتفردة بمأساتها التي فاقت جميع المآسي تكشف لنا وجهًا آخر للحرب. رجل يحمل جثة جاره لمسافة كيلومترين لعدم وجود سيارات إسعاف، مُعلّمة تلقي دروسها في خيمةٍ وهي تبتسم، أم تُغني تهويدة فوق قبر، وكتيبة من المراسلين ظلوا متشبثين بنقل ما يجري للعالم، تطاردهم المسيرات والطائرات بلا هوادة، ويتناقص عددهم يومًا بعد يوم كحبات السُبحة التي تكرّ بلا توقفٍ. والتهمة مضاعفةُ، ففضلًا عن كونهم فلسطينيين -وهذا وحده كافٍ في العرف الإبادي الإسرائيلي- هم أيضًا شهود على الإبادة وجسورٌ لنقلها وتوزيعها نحو العالم، ليرى صورة نفسه عاجزًا ومتواطئًا، والشاهد في عرف المجرم دائمًا ما يكون الضحية التالية.
أبعد من ذلك، تبدو حكاية أنس القصيرة والمؤثرة في آن، تكثيفًا مأساويًا لحكاية الفلسطيني. يموت صغيرًا لكنه يحفر عميقًا في الذاكرة. حياته سلسلة متواصلة من النكبات، «حياة غير آمنة» كما سماها شفيق الغبرا، لأنها تجري «خارج المكان» كما يصفها إدوارد سعيد.
البلاد ذكرى على شكل فناء أو شجرة تين أو بئر، كلمة لا تُنطق دون ألم ولا تُهجر دون خيانة. النسيان استسلام، أما التذكر فمعاناة. هذه هي مفارقة اللاجئ الذي كانه أنس وعشرات الآلاف مثله.
ظل هؤلاء لعقودٍ في تلك الفجوة الضيقة بين الحدود، بين الأسماء، بين ما كان وما كان ليكون. غير أن غياب الأمن والمكان والفجوة هو ما صنعهم. أدركوا أن الأمان ليس مكانًا بل خرافة تُباع لمن ينامون خلف أبواب مغلقة.
يدرك اللاجئ هذا مبكرًا: الأمان وهم، والثبات قصة يرويها الأقوياء لتبرير امتلاكهم.
يعيشون في حقيقة الزوال، كل شيء يزول وهذه قوة لا يمتلكها إلا قلة من الناس. وهي في الحقيقة سرّ شجاعتهم، وربما سرّ شجاعة أنس التي عشناها معه يومًا بيوم. فقوة التشبّث بالمبدأ توازيها قوة في التخلّي عن الرفاه والأمان وحتى الحياة من أجل ذلك المبدأ.
كأنه «علي فودة»
عندما قرأت خبر سقوطه في ساحة الشرف لمعت في ذهني حكاية الصحافي والشاعر علي فودة، الذي استشهد على الجبهة خلال حصار بيروت، والشبه كبير حتى في تاريخ الموت.
في مثل هذا الشهر من عام 1982 كان علي متهاديًا على دراجته وسط القصف، يوزّع جريدته «الرصيف» التي يكتبها ويصفّها ويخرجها، على الفدائيين المنتشرين على محور «عين المريسة»، حتى جاءه القدر الإسرائيلي في شظايا قذيفة أطلقتها بارجة كانت مستقرة في عرض بحر بيروت.
ولأنه لا يعرف غير الكتابة والصحافة فلم يكتفِ بالبقاء في الملاجئ، مصرًّا على المشاركة في المعركة بطريقته الخاصة.
كان علي فودة شرارةً من حماسٍ وتضحية، يافعًا ومندفعًا مثل أنس.
وعندما سقط أذيع خبر موته ووضعَ في ثلاجة المستشفى، وكتبت عنه المراثي وكلمات التأبين والثناء. ثم اكتشفوا أنه حيّ فقرأ خلال مقامه بالمستشفى ما كُتب في رثائه، ولم يلبث طويلًا حتى فارق الحياة سعيدًا بكل ذلك الثناء. ربما كان علي فودة أحسن حظًا من أنس الشريف، فقد يسّرت له الأقدار أن يطلّ على الحياة من نافذة غرفة العناية المركزة، فيقرأ مراثيه ويرى الحب في عيون الناس. أمّا أنس فذهب دفعةً واحدة. مطلًا على مراثيه من شرفات الغياب، وربما اختلاف المصائر بُرهانٌ جديد على تطور وحشية العدو خلال أربعة عقودٍ. فعدو الأمس ومهما كانت وحشيته، صار اليوم غولًا بلا لجامٍ. القوة المجرّدة حرفته الوحيدة والإبادة هويته المعلنة.
خلال الهُدنة القصيرة التي جرت مطلع العام الحالي، نشر أنس مقطعًا يقول فيه «لم أتخيل أنني على قيد الحياة حتى اللحظة».
كان مدركًا لفكرة أنه يصرف من فائض العمر المتاح في شروطٍ من المستحيل أن يكون فيها للعمر فائض.
فضلًا عن كونه مطلوبًا بالاسم على لائحة أهداف الاحتلال العسكرية. فقد رابط طويلًا يغطي ما يجري في شمال القطاع، وما أدراك ما الشمال، ولاسيما في معسكر جباليا، عندما أُجبر الناس على الهجرة جنوبًا.
لكأن مكوثه هناك إشارة أخيرة على وجود مقاومةٍ ما. ثمة دمٌ فدائيّ حار في كلامه، في لثغته المبحوحة وصراخه وخلطه بين الذاتي والموضوعي أمام الشاشة. حين كانت تتفلت منه العبارات بغضبٍ كأنه الخبر والموضوع في آن واحدٍ.
كنت أتساءل دائمًا عن مصدر القوة التي تحركه ورفاقه. بدا لي الأمر دائمًا أعمق من مجرد البحث عن المجد الشخصي أو السبق الصحفي. نحن إزاء حالة معقدةٍ من حالات النفس البشرية، في بحثها عن معنى الوجود ضمن شرطٍ موضوعي ليس فيه أي معنىً للوجود.
ربما الإيمان وحده قادرٌ على تفسير ذلك، وهو ما يشير إليه أنس ضمنًا في وصيته بالقول: «عشتُ الألم بكل تفاصيله، وذُقت الوجع والفقد مرارًا، ورغم ذلك لم أتوانَ يومًا عن نقل الحقيقة كما هي، بلا تزوير أو تحريف، عسى أن يكون الله شاهدًا على من سكتوا ومن قبلوا بقتلنا، ومن حاصروا أنفاسنا ولم تُحرّك أشلاء أطفالنا ونسائنا في قلوبهم ساكنًا ولم يُوقِفوا المذبحة التي يتعرّض لها شعبنا منذ أكثر من عام ونصف».
لم يتخيل قبل شهورٍ أنه سيبقى على قيد الحياة بعد عامٍ ونصف منذ انطلاق حرب الإبادة. لكنه ظلّ دائمًا قولًا وفعلًا، يريد أن يعيش ليكون جسرًا بين ساحة الجريمة والجمهور. لكن موته الذي لم يخشه يومًا، دفعه ليعيش حياته بعمق اللحظة، شأنه شأن كثيرٍ من العظماء. شيء شبيه بذلك الموقف المهيب الذي يصوره فاضل العزّاوي في روايته «القلعة الخامسة»، عندما يصف بطله مصطفى في زنزانته وهو يودع الحياة ليلة إعدامه قائلًا: «إن قسوة الحياة لا تلغي حقيقة أنها أجمل ما في هذا الكون، أجمل وأعمق من أي شيء آخر. أسأل نفسي: ترى هل يمكن للمرء أن يموت قبل أن يداخله اليأس؟ كلا، لا أعتقد ذلك. إن المرء يكافح جرثومة الموت حتى اللحظة الأخيرة، ولكن كل هذه القسوة التي يعريها الموت لا تبرّر لحظة خيانة واحدة. من أجل ذلك ينبغي أن تعاش الحياة بشرف. وعندما يكون الموت شرف حياتنا ينبغي أن نقبل به بهدوء وصمت، حتى لا نخون ذكرى وجودنا في العالم، مهما كانت الأسباب». وشرف أنس أنه لم يخن نفسه ووجوده رغم أن الأسباب كانت قاسية تنوءُ بحملِها النفوس.
قدره أن يدقّ «جدران الخزان»
كان أنس المراسل الحربي الذي عرفناه خيار الضرورة. لم يسع يومًا للظهور أمام الشاشة، لكن الفراغ كان أشبه بالخيانة في ظل الحرب. وجد نفسه مراسلًا بين الركام ينقل أخبار الموت والدمار التي لم يكن منفصلًا عنها. نقل لنا أخبار استشهاد أفرادٍ من عائلته وعددٍ من أصدقائه. وعشنا معه يوميات تدمير معسكر جباليا مسرح طفولته القاسية. لم أسمعه يومًا يغرق في ثرثرة بعض المراسلين عن السياسة والجيوسياسية وتقديم التحليلات والتوقعات. كان منشدًّا للواقع يدير الكاميرا إلى مواطن البؤس والخراب، يتحدث إلى الأطفال عن شواغلهم في حرب لا يدركون معانيها، ومع النساء عن جوع أطفالهن، ومع العجائز عن حالهن في المخيمات. يدخل عنابر المستشفيات ويتجول في أسواقٍ بضائعها السراب، وأحيانًا يتسرب صوت إلى قلب التقرير أو البث المباشر من قريب له أو صديق يسأل عن أحواله، فيردّ عليه السلام مبتسمًا في المباشر دون حرجٍ. كان واحدًا من الناس.
الأكثر غرابةً في خيار الضرورة هذا هو عدم تسلل مراسلي الحرب الدوليين إلى غزة. الذريعة أن «إسرائيل» تمنع دخولهم، وهذا صحيح. لكن في كثيرٍ من الحروب السابقة منعت الدول والجيوش دخول المراسلين، ولكن قليلًا منهم تسللوا بطرق سرية إلى الجبهات.
قبل أسابيعٍ نشر المؤرخ الفرنسي جون بيار فيليو كتابه «مؤرخ في غزة»، الذي قدم فيه شهادة كتبها من قلب الإبادة. بعد أن تمكن في نهاية العام الماضي من التسلل إلى غزة مع مجموعة من منظمة أطباء بلا حدود ومكث هناك شهرًا. ولأنه يعرف غزة جيدًا، وكتب تاريخها المفصل في كتابه الموسوعي الذي صدر عام 2012، يقول: «الأرض التي عرفتها واستكشفتها لم تعد موجودة. ما تبقى منها يعجز اللسان عن وصفه». وهذا دليل على إمكانية التسلّل للقطاع رغم القيود. ربما يكون هذا الإحجام دافعه أن «إسرائيل» قد قرّرت أن تنهي حياةً كل روحٍ في غزة، وهو ما أصبحنا ندركه مع تقدّم الإبادة أشواطاً في التوحش، وما يدركه العالم ، وخاصة حلفاء «إسرائيل» في الغرب، ولذلك صارت مهمة نقل ما يجري أشبه بالعملية الفدائية الملقاة على عاتق الفلسطيني وحده. بينما يموت يوثق موته، شاهدًا وشهيدًا، بكل ما يعنيه هذا الكليشيه من معانٍ.
تقيم الكتيبة الصحافية التي ينحسر عددها كل يومٍ في غزة الحجةَ على العالم، وربما ستكون وحدها حجةً على فصلٍ من تاريخ الإبادة الجارية. وتقيمها قبل ذلك علينا نحن، الأقرب وجدانًا وروحًا، والأكثر عجزًا.
حياة أنس الشريف وموته، وحياة رفاقه وموتهم، لن تدع لأحدٍ مجالًا ليقول، كما قال أبو الخيزران ذات يومٍ: «لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟». لقد دقوا جدران الخزان حتى كلتّ متونهم دون مجيب أو مغيث.
وقدر الذين سيأتون من بعدهم أن يظلوا يدقون على جدران ذلك الخزان اللعين، وهو ما أوصى به أنس في كلماته الأخيرة : «أوصيكم بفلسطين (..) أوصيكم بأهلها، وبأطفالها المظلومين الصغار، الذين لم يُمهلهم العُمرُ ليحلموا ويعيشوا في أمانٍ وسلام، فقد سُحِقَت أجسادهم الطاهرة بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ الإسرائيلية، فتمزّقت، وتبعثرت أشلاؤهم على الجدران.
أوصيكم ألّا تُسكتكم القيود، ولا تُقعِدكم الحدود». وتلك القيود الذاتية المكللة بالعجز والصمت، والحدود الموضوعية والموضوعة بمشارط الاستعمار وضيق الدول الوطنية الكسيحة، هي التي قصدها غسان كنفاني، عندما نحت تلك النهاية المأساوية لرجاله الثلاثة، فيما كان صمت الصحراء يردّد خلف أبي الخيزران صدى سؤاله الإنكاري لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟
قدّم أنس الشريف لفلسطين أنفس ما يملك، وهي حياته. بالضد تمامًا من حسابات القوة والردع والسيطرة التي يفكر الاحتلال من خلالها. هذه هبة تعمل خارج منطق التبادل، لا يمكن اقتلاعها ولا يمكن احتواؤها. قد تسحق المسيرة أو الدبابة الجسد، لكنها لا تستطيع سحق المعنى، في عالمٍ صار فيه العطاء الخالص مستحيلًا لأنه محكوم بأنانية المعاملة بالمثل.