منع ندوة الحريات الفردية لا ينهي النقاش في المجتمع
انكشفت عورة السلطة وعورة تيار التطرف الديني معا، وهما اللذان يبذلان الكثير من الجهود لمحاولة الظهور بغير حقيقتهما التي يخفيانها. فبتحالفهما من أجل حظر ندوة فكرية دولية حول الحريات الفردية بالدار البيضاء، يكونان معا قد أسقطا الأقنعة عن وجهيهما وظهرا بملامحهما التقليدية، ملامح السلطان الغشوم والقاهر الذي لا يرى له من بقاء بغير الغطرسة وتكميم الأفواه، وما أغباها من سياسة في عهد زالت فيه كل الحواجز وأصبح كل شيء يقال على المكشوف رغم أنف كل الحراس !
السلطة والإسلاميون هم الأعداء التقليديون للحريات بكل أنواعها، بالنسبة للسلطة لأنها تعتمد سياسة العصا والإخضاع بالعنف واحتقار “الرعايا”، وبالنسبة للإسلاميين لأن الحرية ليست في صالحهم وهم يتطلعون إلى كراسي التحكم، التي يسعون إليها عبر الوصاية على المجتمع وعقول الناس، وهم يعتقدون أنهم لا يمكن أن يحكموا بغير ما تقوى به السلطة وتترسخ في بلاد المسلمين: أي العنف والغلبة والإجماع القسري، شأن كل من يطرق باب السلطة بدون مشروع ديمقراطي حقيقي قوامه احترام حرية التفكير والتعبير والتنظيم والعمل.
بين السلطة والإسلاميين سباق محموم في استعمال الدين من أجل تكريس الوصاية على عقول الأفراد والمجموعات وتخديرهم، ولهذا يجدان معا في نسبة الجهل والأمية والتخلف خير عتاد لمواجهة احتمالات اليقظة لدى المغلوبين على أمرهم، ما يجعلهم ينزعجون على الدوام من الأفكار التي تصدم الناس وتزحزح قناعاتهم الكاذبة وتدفعهم إلى التفكير وتشغيل أدمغتهم المعطلة.
لنستمع إلى تصريحين أحدهما لوزير يمثل السلطة المخزنية وآخر يمثل قوى النكوص الإخوانية، صرح محمد أوجار وزير العدل في الحكومة المغربية قائلا على هامش المنع السلطوي للندوة التي دُعي هو نفسه إليها: “لا يمكن أن أشارك في ندوة فيها من يدعي أنه ينتمي لطوائف لا وجود لها في المغرب” (كذا !) ، السؤال المطروح على وزير العدل هو التالي: ما هي المعطيات والأرقام التي بحوزته والمتعلقة بالأقليات الدينية بالمغرب ؟ كم عدد المسيحيين المغاربة اليوم ؟ وكم عدد البهائيين والشيعة والأحمدية ؟ إذا لم تكن لدى الوزير أرقام محدّدة أو نتائج استقصاء ميداني قامت به السلطة الوصية، فكيف يسمح لنفسه بإطلاق تصريح بهذا القدر من الحسم والإطلاقية ؟ كيف يعرف الوزير بأن هذه الأقليات غير موجودة البتة في بلادنا ؟
الحقيقة أن الوزير يحاول التغطية على ارتباك السلطة، فهي لا تريد الاعتراف بالواقع، وتفضل تجاهله بشكل تام، فتمارس سياسة النعامة التي جسدها الوزير في تصريحه.
أما مصطفى الرميد وزير حقوق الإنسان (الرجل المناسب في المكان المناسب !) فقد صرح قائلا:” إن موضوع حرية المعتقد خطر على الأمد البعيد إذا اتسعت دائرة الأفراد والجماعات الذين يغيرون دينهم” (كذا !).
فهل حرية المعتقد يشترط فيها ألا يغادر الناس دينهم إلا بمقدار ؟ ما هو السقف الذي حدده الوزير الذي ما زال على ما يبدو لا يعرف أنه يتواجد في المنصب الخطأ ؟ ثم لماذا تتسع دائرة الأفراد الذين يغيرون دينهم ؟ ما هو هذا الدين الذي إذا غادره الناس وجب إلزامهم بالبقاء فيه عنوة ؟
على من يضحك الوزير الإخواني ؟ فما دام غيورا على استقرار البلاد، هلا أخبرنا كم عدد الخلايا المسلحة التي تم تفكيكها وكان أعضاؤها يهودا أو مسيحيين أو بهائيين أو شيعة أو أحمدية ؟ من هم المتربصون باستقرار المغرب والذين ما فتئوا ينتظرون أية فرصة من أجل القتال والمقاتلة والتخريب ؟ من هم صانعو الأحزمة الناسفة ؟ من هم “الدواعش” و”أنصار الشريعة” و”جبهة النصرة” التي خربت سوريا والعراق تخريبا ؟ هل هم مسيحيون أم يهود ؟ هل يوجد بهائي واحد حمل السلاح ضد الدولة في وطنه ؟
وزير إخواني آخر هو الناطق الرسمي باسم الحكومة صرح لا فضّ فوه متوجها إلى ضحايا المنع السلطوي:”حينما يكون هناك ضرر يمكن التوجه إلى القضاء الذي يبقى هو الحكم في هذه الحالة”. هكذا أرسل المتضررين إلى الجهة التي لا يطمئن إليها صاحب حق في بلادنا، ولست أدري إن كان قد سأل نفسه وهو الذي خبر دواليب الدولة منذ سنوات، ما هو الفرق بين القضاء وبين وزارة الداخلية التي منعت اللقاء في المغرب ؟ ثم ما هو مصير معتقلي الريف وجرادة ومناطق أخرى الذين حبستهم وزارة الداخلية ويحاكمهم القضاء، هل تم إنصافهم ؟ هل عوملوا بطريقة تظهر على الأقل استقلال القضاء ونزاهته ؟
أعتقد أن علينا أن نطرح جميعا سؤالا حيويا اليوم، لماذا تتبنى الدولة شعارات لا تطيق تحملها في الممارسة العملية، ولا تنوي تنفيذها والالتزام بها ؟
إن الأمر لا يتعلق بمعتقد أو بدين ما لأن الدين لا يقوم إلا بالتسليم والإيمان الفردي عن قناعة، وإنما يتعلق الأمر بالسياسة عندما يمارسها من لا شرعية له سوى تدويخ الناس بالخرافة والدجل والكذب.
منع ندوة فكرية حول الحريات الفردية من طرف السلطات ومعارضتها من طرف الإسلاميين سلوك مليء بالمفارقات، فالسلطة هي من نظمت ندوة دولية بمراكش حول “حقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي”، وأصدرت “نداء مراكش” الذي ينص على ضرورة احترام تلك الأقليات وعدم التضييق عليها، وحزب “العدالة والتنمية” المشارك في الحكومة والذي ينتمي إليه وزير حقوق الإنسان (الحقوق المفترى عليها) هو من تبني حرية المعتقد في مؤتمره الذي نظمه مباشرة بعد تبني دستور 2011، وقد تظاهر الكثير من أعضاء البيجيدي آنذاك بأنهم لا مشكلة لديهم مع حرية المعتقد لأنها “منصوص عليها في القرآن”، غير أن هذه المزاعم التي لم تكن قط مواقف مبنية على قناعات راسخة وواضحة، بل مجرد تاكتيكات سياسوية، سرعان ما انكشفت عندما أصبح هؤلاء أمام واقع يضعهم على المحك.
وقد نشرت الصحافة على هامش هذا الحدث تدوينة على “تويتر” لشخص قيل إنه “مفكر موريتاني” يدعى محمد المختار الشنقيطي، هاجم فيها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان معتقدا أنه وراء تنظيم الندوة المغربية، ومضيفا “هل وصلت حرب محمد بن سلمان على الهوية الإسلامية إلى المغرب ؟” وما يمكن فهمه من تدوينة هذا “المفكر الموريتاني” هو نفس المعنى الذي عبر عنه أحمد الريسوني سنة 2011 ، عندما قال مهاجما إقرار حرية المعتقد في مسودة الدستور : “إذا تقررت حرية المعتقد فسوف لن يبقى لأمير المؤمنين مؤمنون يحكم عليهم” (كذا !) ، فصاحبنا الموريتاني أيضا صنع مقابلة بين الحريات الفردية وبين الهوية الإسلامية، فأن تكون مسلما معناه أن تتنازل عن حريتك في اختيار دينك عن إيمان واقتناع، وهكذا صار حاملو الهوية الإسلامية محكوما عليهم بالعبودية إلى الأبد، وسيكون عليهم حسب هذا المنطق أن يختاروا بين أن يكونوا رعايا مسلمين أو مواطنين أحرارا.
ثمة بديهية لا يتجاهلها إلا من يمارس سياسة النعامة كما السلطة، وهي أن الحرية نقاش مستقبلي سيظل مطروحا إلى أن يخرج الناس من الوصاية، لسبب بسيط، هو أن جوهر الإنسان أنه كائن حرّ.
توصيتان إلى المنظمين:
لقد كانت الندوة ستعرف إقبالا جماهيريا كبيرا نظرا لفرادتها وتميزها، كما كانت ستلقى رواجا كبيرا لدى وسائل الإعلام الداخلية والخارجية، ولهذا نرى ضرورة إعادة تنظيمها بنفس المشاركين فيها على الأنترنيت، وعلى اللايف مباشرة، حتى يتابعها مئات آلاف المواطنين من مختلف بقاع المعمور، وسيكون عليهم أيضا جمع مداخلات المشاركين وطبعها في كتاب يكون لبنة في صرح دولة القانون المأمولة.