قراءة جمالية في “رواية أحلام واحة في منتصف العمر” للروائي المغربي خالد أخازي
تعالق شعرية السرد وسردية الشعر... بقلم لورا ملاك: ناقدة وكاتبة سورية
قلقةٌ تلك الأحلام التي تبقينا على قيد الاحتمال! واسعة تلك المسافات التي تحيي فينا الانتظار الممكن!
وعصيّة هي حين تضعُنا على سندان اللّهفة نتلقى ضربات عشوائيّة من الخيبات الموجعة، وتتركنا صرعى تحت مظلّة التّساؤل المرّ فتحجب عنّا شمس الحقيقة.
تتثاءب طموحاتنا منهكةً على حافّة الواقع، حين نكتشف أنّ نورًا ما تكوّر هنااااااك تحت عباءة العتمة، يشقّها بعد مخاض عسير ليظهر من جديد ويمسك طموحاتِنا من معصمها، يسوقها بهدي إلى هناك …إلى حيث الحياة.
جميلة تلك الخيبات حين تبعثنا من جديد وتعيد تدوير اللّهفة داخلنا، والأجمل تلك الحيرة التي رمانا في حضنها الكاتب خالد أخازي ليقنصنا بألف سؤال …هل علينا أن نحلم؟
هل الأحلام مرض الماضي الذي لا يمكن استئصاله إلا بعمليّة التحقّق والتي تستوجب دفعَ الخيبات وطمرها تحت أرصفة النسيان؟
هل نحن رهن العجز الذي يحيلنا تلك الفرزدقة التي تلوكها أصابعه فتنسينا ما نملك من قوة، القوة التي نكتشفها في وقت ما وتعيدنا إلى الحياة مجدّداً.
نعم حين تصل أحلامنا خالية الوفاض إلى ذروة اليأس، نجد أنّ داخلنا تلك الواحة المنقذة للطّموح العطِش في صحراء اليأس….. هو فقط يُطبَخ على بندول الوقت.
صرخة حلم من خاصرة الماضي المترهّل
أحلام واحة في منتصف العمر هي رواية أزمان متعددة ضمن زمن واحد يمتد من عمر الطفولة المكلومة مارّا بخيبات ريعان الشباب والعطاء وصولاً إلى اللّهاث المرّ.
لم يقيّد الكاتب خالد أحداث روايته في زمان ومكان محدّدين، فتارة ينقلنا إلى حدث تاريخيّ يعود لعام 1981 عام الانتفاضة المغربية ضد نظام شرس خلّف الخوف والقهر والوجع في مواجهة لقوى التغيير، والذي عولج بعمليات دفن جماعيّة، وتارة نعيش حوادث ذلك الميتم الذي كان أشبه بسجن يعلك خلف قضبانه أرواحاً هشّة طريّة لا حول لها ولا قوّة ويبصقها أجساداً تكسوها القروح على قارعة الحياة لتعيد هيكلتها من جديد، وتارة في حي الشوافين( الضفادع) الذي كان مستنقعاً للأوبئة والجرائم الماديّة والمعنويّة، وتارة ينقلنا إلى واحة من واحات الرباط الهادئة الهانئة بأهلها المباركين.
هي رواية الآه والألم وجَلد العمر بسياط الخيبات الموجعة، رواية مجتمع بأكمله يأخذ التاريخ المزوّر فيه دوراً فاعلًا في تأطير الإنسان ودفعه باتجاه واحد ببصيرة عمياء عن الحقيقة وبصر معصوب بزيف الواقع، فإيديولوجيا السياسة كفيلة بتغيير فكر عثمان الاشتراكي، لتجده برلمانيّا يتقن اللعبة السياسية.
أتقنتَ فنّ الصيد سرديا ودلاليا حين مسكت الألم من المنتصف ورميت صنارةً بأكثر من طُعم تصيّدت بها حيوات شخصيات متعددة من واقع الدار البيضاء والواحة البعيدة، جمعتها بأزمنتها المختلفة في شبكة مكانيّة مترامية الأطراف ترادفت حوادثها على ألسنة شخصياتها الرئيسة والثانوية الفاعلة في تكامل الحوادث، ضمن تجليات فكرية متنوعة بتنوع المناجاة، مانحاً كلّ شخصيّة واقعًا مختلفاً ولغةً أدبيّة بليغةً تواجه ركاكةً كادت تلج الكثير من الكتابات بما منحتها من الرصانة والعمق، ضمن أسلوب سرديّ حيويّ وحوار شيّق وسلس مستخدماً تارة ضمير المتكلم وتارة ضمير الغائب و حبكة تبرز قدرة أخازي في قطع الخيط عند منعطف ووصْله عند منعطف آخر من الرواية.
لحظة انكسار تقصم ظهر الزمن
من ذلك البيت الذي بات مستنقعًا لرائحة الدخان وطنين القلق والحيرة ودموع الخيبة وسياطِ الانتظار يعود الزمن بذاكرة مقهورة إلى الماضي الممرّغ بالعفونة والقهر والذلّ في ذلك الميتم.
فما الذي فعله صلاح حيران / بطل الرواية/ لكي يُقال من عمله وهو الضابط الذكيّ والاستخباراتي الفذ الذي ما عجز عن قضية.
طفولة مكلومة في ذلك الميتم الذي لم يحض فيه بأدنى حقوق الطفولة، طفولة بدأت بعد قطع حبل سرّته عن أية عاطفة إنسانيّة ليفتح عينيه على حياة ملؤها الوعيد والتهديد من المربية الكهلة نعيمة الجنيّة التي كانت تحرمهم من أدنى حقوقهم في الميتم وتمارس عليهم أبشع أنواع القهر والذل والذي كان يمارس سلطته هو الآخر لحظة التبوّل في الفراش وجعْل الخوف رقيباً على عيونهم يحرمهم النوم ويتركهم صرعى القلق بعقوبة الغد، يساند نعيمة تلك الطبّاخة وذاك الحارس البدين اللذان لم يكونا أقل قسوة من نعيمة، فمهنة الترهيب من تلك الغرفة القذرة التي تمثل المنفردة لكل طفل لا يسمع الكلام أو يتأخر عن المواعيد كانت المهنة المحبّبة لهما.
ينتهي جحيم صلاح في هذا الميتم عندما يحصل على الشهادة الابتدائية لينتقل إلى دار الخيرية ومن ثم ليصار ضابطاً شرساً واستخباراتيًّا فذّ، يعيش حياة السلطة ويمارس كل ما مورس عليه من قهر وذل في المحيط القريب أو البعيد، وليكون مشاركاً في عمليات الدفن الجماعية لمواطنين ذلّهم القهر وحنقهم الجوع لينفجروا مطالبين بحقوقهم في الأمان والحياة الكريمة، لينتهي به الحال خلف جدران منزله يخفف من صداع تساؤلاته ببندول الانتظار والأمل.
إقالة جعلته صريع هواجسه وأمراضه النفسية والتي ساهمت زوجته رقية من سلالة المرابطين الأتقياء في إخراجه من محنته حين لحق بها إلى واحتها في الرباط وعايش أهلها الذين اتخذوا الدين وسيلة لعلاج كل معضلة وساهموا في إخراج صلاح من محنته وكشط الزيف الذي اعترى روحه وتطهيرها بالمحبة والنور.
وكما عهدنا أخازي فإنّه الأكثر خبرة في التسلّل إلى بيت القصيد، فالتناقض المكانيّ في رواية أخازي فعل فعله، فلمّا كانت الدار البيضاء مستنقعًا للجرائم والشرور والكراهية كانت الواحة نقيضًا واضحاً لها، فالدين والسياسة لا يجتمعان.
حتى أكثر الشخصيات سوءًا في الواحة (الزناد الحرطاني) يظهر الكاتب أنها تنطوي على بذور الخير، وما شرورها إلا حالة نفسيّة مجتمعية طارئة.
رواية واحة في منتصف العمر رواية تكشف عن أساليب مواربة لمواجهة عنف السلطة، يظهر الكاتب فيها ما للخطاب الدّيني من أثر في أيديولوجيا الفكر السياسي في المغرب بشكل خاص، فما زرعته السلطة في شخصيات الرواية من خباثة السياسة والشرور والجبروت، تستغل التيوقراطية كخطاب شعبوي وعزاء نفسي جماعي المتربصة المرحلة، الفراغ القيمي لتقدم نفسه كبديل لإنشاء مجتمع العدالة والحق والكرامة في لحظة احتضار الايديولوجيات الستينية، وخفوت دور المثقف العضوي وانتشار عدوى التفاهة.