الرئسيةفكر .. تنوير

سعيد يقطين يكتب: بناءُ النص القرآني ومعماريتُه

وعندما نتحدث عن بناء النص القرآني، فإننا نقصد بذلك معماريته النصية التي يتحدد من خلالها ترتيبه، ونوعيته الجنسية. يعود مصطلح «المعمارية» النصية إلى جيرار جنيت (1979)، ليعني به البناء الذي تتحدد من خلاله جنسية النص أو نوعيته.

نزل القرآن الكريم منجما، أي متفرقا، ليتلاءم مع الظروف والمناسبات التي كان ينزل فيها إلى الرسول (ص). وكان عبارة عن آيات بسيطة أو مركبة، أو سور قصيرة.

كان الصحابة يحفظون ما ينزل عن ظهر قلب. جمع القرآن بعد ذلك في المصحف في ضوء ما كان الرسول (ص) يوصي به أصحابه من حيث ترتيب آياته وسوره.

وعندما نتحدث عن بناء النص القرآني، فإننا نقصد بذلك معماريته النصية التي يتحدد من خلالها ترتيبه، ونوعيته الجنسية. يعود مصطلح «المعمارية» النصية إلى جيرار جنيت (1979)، ليعني به البناء الذي تتحدد من خلاله جنسية النص أو نوعيته.

ولذلك كان هذا الكتاب خالصا للأجناس الأدبية. ولا علاقة لهذا المصطلح بـ«الجامع النصي» كما ترجم إلى العربية. إن هناك فرقا بين السابقتين أرشي ( architexte) التي تتصل بالبناء أو المعمار، وأركي ( arché) التي تعني الرئيس أو العالي، وتترجم ( archétype) بالأنماط العليا.

اتخذ بناء النص القرآني معمارية خاصة تجعله من حيث كونه جنسا كلاميا مختلفا عن كل أجناس الكلام العربي، وإن كان يتضمن بعضها، أو بعض أنواع ذاك الكلام. ولكي نحدد معماريته النصية لا بد لنا من الوقوف على بنائه لأنه هو ما يمكننا من تدقيقها.

بذل العلماء المسلمون مجهودات كثيرة لضبط بنائه، وتحديده في ضوء الترتيب الذي عرفه مع المصحف، وكانت لهم بذلك اجتهادات كثيرة. فاقترحوا لذلك عدة تقسيمات تتصل بمادته وأنواعها، وأجزائه وتفريعاتها.

نجد من بين هذه التقسيمات ما كان متوقفا على الكم من حيث الطول والقصر، انطلاقا من التمييز بين السور، وما تتضمنه من آيات. مع التأكيد أن مصطلحي السورة والآية من صميم التمييز الذي يبرز من خلال الميتا نص القرآني. فميزوا أولا بين: الطُّوَل، وهي سبع سور. وثانيا: المئون وهي تلي الطول، وتزيد آياتها عن مائة أو تقاربها. وثالثا: المثاني، وهي ما ولي المئين، وهي السور التي تقارب آياتها المائة. ورابعا: المُفصل، وهو ما ولي المثاني من قصار السور. وسمي بذلك لكثرة الفواصل بين السور بالبسملة. ولما كانت سور المفصل كثيرة العدد، قسمت بدورها إلى: طوال، وأوساط، وقصار.

كما نجد تقسيما آخر من حيث عدد الآيات، وما تتضمنه من اتفاق واختلاف من الإجمال أو التفصيل. ورأوها ثلاثة أقسام:

قسم لم يختلف فيه لا من حيث الإجمال ولا التفصيل. وثان، اختلف فيه تفصيلا لا إجمالا، وثالث، اختلف فيه إجمالا وتفصيلا. في ضوء هذا التقسيم أنطلق من التمييز الأول لغايات خاصة، سأبينها لاحقا، إلى ثلاثة أقسام:

السور الطويلة، والمتوسطة، والقصيرة. فالطويلة هي التي تضم الطوال والمئون. وتشتمل المتوسطة على المثاني والطوال من المفصل. وتقتصر السور القصيرة على الأوساط والقصار من المفصل.

إلى جانب هذا التقسيم السُوَري نجد آخر يتصل بتوزيع كتلة المادة النصية بغض النظر عن السور والآيات تقسيما مبنيا على عدد الحروف. فقسم القرآن الكريم إلى ثلاثين جزءا، وكل جزء إلى حزبين. وبذلك كان مجموع أحزاب القرآن الكريم، ستين حزبا. وما يزال بعض المغاربة إلى اليوم يحلفون بـ: «وحق ستين حزبا». وأرى أن للتقسيم الأخير غايات تتصل، من جهة، بالتعبد في الصلوات، وقراءة حزبين بعد صلاة المغرب، والفجر، ليختم القرآن الكريم في شهر.

وكذلك الأمر في صلاة التراويح. كما أنه يتصل من جهة أخرى بأهداف تربوية تتعلق بتحفيظ القرآن الكريم للأطفال حيث كان الطفل يتدرج في حفظ كل حزب كاملا، قبل أن ينتقل إلى حزب آخر. ومتى تقدم الطالب في حفظ القرآن صار بإمكانه نقل الثمن أو الربع أو النصف إلى لوحته بحسب إمكاناته في التحصيل والحفظ.

ومعنى ذلك أن الحزب الواحد كان يقسم بدوره، في ذاته، إلى سبعة أقسام متوازنة تقريبا من حيث عدد الكلمات: ثمن فربع، فثمن فنصف. فثمن وربع وثمن.

وانطلاقا من الحزب أيضا، نجد تقسيما آخر، حيث تُضَم مجموعة من الأحزاب، في علاقتها ببعضها، في ربع مما ورد في القرآن الكريم. فكانت الحصيلة أربعة أرباع. يضم الربع الأول منها ست سور. والربع الثاني: اثنتا عشرة سورة. والثالث منها يستوعب سبع عشرة سورة، والأخير تسعا وسبعين سورة.

إذا كان تقسيم القرآن الكريم إلى سور أجزاء وأحزاب وأرباع، من اجتهادات العلماء، فإن مما يروى أن التحزيب المشهور عن الصحابة هو ما يرويه أوس بن حذيفة، قال: «سألت أصحاب رسول الله (ص) كيف يحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث (سور)، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده». وكان حزب المفصل يمتد من سورة «ق»، إلى سورة الناس.

يمكننا تقسيم كل هذه التقسيمات إلى قسمين كبيرين: التحزيب والتسوير. يقوم الأول منهما على التوازن بين الأقسام، وهو ما نعثر عليه في التقسيم إلى أجزاء، وأحزاب وأرباع. أما الثاني فمبني على التفاوت بين الطول والقصر انطلاقا من السور.

ولكل من هذين القسمين الكبيرين أهداف مرتجاة. فالبعد التعبدي والتربوي واضح في «التحزيب». وإذا كان البعد التعبدي واردا أيضا في «التسوير»، فإن بعدا آخر كان وراءه، وهو ما نجده في تعامل العلماء المسلمين مع القرآن الكريم من خلال التفسير حيث ظل قائما على «وحدة» السورة، وعلى أن لكل سورة بنية خاصة بها.

إن لكل هذه التقسيمات غايات ومقاصد، وكلها تدل دلالة قوية على خصوصية النص القرآني من حيث بنائه ومعماريته. ونشير في هذا السياق إلى اختلافه، من هذه الناحية، عن أجناس الكلام العربي وأنواعه، بل واختلافه حتى عن الكتب المنزلة على هذا المستوى، بل وعلى كل النصوص التي أنتجها الإنسان.

يعود هذا إلى نزوله منجما، وعند جمعه في مصحف كانت هناك عدة إمكانيات لترتيبه وتنظيمه. ولما كان الجمع مؤسسا على التوقيف النبوي، من جهة، وتقسيمه على الاجتهادات المختلفة، من جهة ثانية أعطانا ذلك إمكانات متعددة للتعامل معه من جهة بنائه ومعماريته.

يسمح لنا التقسيم الذي ارتضيناه إلى سور طويلة، ومتوسطة، وقصيرة، باختصار الأقسام إلى قسمين متقاطبين، وبينهما قسم وسط. وهذا التقسيم الثلاثي يتيح لنا تدقيق البحث فيما يختلف به كل قسم عن غيره، وأين يأتلف معه على مستويات تتصل بالموضوعات، والأساليب، واللغات، من جهة.

كما أنه يتيح لنا إمكانية التوقف على ما بين الآيات داخل كل قسم، وما تتضمنه من اتفاق واختلاف من حيث الإجمال أو التفصيل، وما يقدم منها مطولا، أو مختصرا، من جهة ثانية. ومن جهة ثالثة تدقيق النظر في المتواتر والتكراري بين الآيات في ضوء كل قسم من الأقسام الثلاثة. ويتيح لنا ذلك أيضا إمكانيات مهمة للمقارنة بين أقسام السور، وما تتضمنه آياتها في علاقتها بالسياقات المختلفة، ومختلف التمييزات التي وقف عليها المسلمون سواء اتصلت بالزمان (الليلي ـ النهاري)، أو المكان (المكي ـ المدني)، وما شابه ذلك.

إلى جانب كل هذه الإمكانيات التي يسمح لنا بها التقسيم الثلاثي، يمكننا أن نضيف ما يتعلق بضبط البنيات النصية داخل كل قسم، وتحديد الصيغ الخطابية التي تختلف بطبيعة الحال بحسب الطول والاقصر، ويكون ذلك تمهيدا لدراسة أجناس الكلام القرآني، وأنواعه، وأنماطه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى