في ذكرى رحيل المفكر الكبير سمير امين
برحيل المفكر الماركسي الكبير سمير امين، تفقد شعوب الجنوب الثالثية مناصرا كبيرا لقضاياها في العالم، مفكر حلم بعالم متعدد الاقطاب، يقضي على الهيمنة الرأسمالية المتوحشة، التي تتغيأ استعباد الشعوب، والامعان في اذلالها، ونهب ثرواتها، وفاة سمير امين خسارة لكل القوى اليسارية التقدمية الدولية التي تكد وتناضل من اجل عالم المساواة والحقوق الكونية بدون تمييز، والطامحة للانفكاك من اسر الديون والتبعية الاقتصادية والسياسية التي افقرت الشعوب، وجعلتها لقمة سائغة في فم المؤسسات الدولية التي فرضت وصاية اقتصادية وسياسية، وسياسات تقشفية ظالمة على البلدان التالثية، تحت مبررات الاصلاح الاقتصادي والسياسي فيما سمي بالتقويمات الهيكلية وهي في الحقيقة سياسات تقشفية أضرت ايما ضرر بالشعوب الفقيرة المضطهدة بلغة فرانز فانون، يكفي ان نحصي عدد البلدان التي كانت ضحية المؤسسات المالية الدولية لنرى حجم الضرر الكبير الذي ألحقه الرأسمال الدولي بحقوق الشعوب وكرست المؤسسات الدولية والحكومات الرأسمالية الراعية لها تطورا لا متكافئ بين الشمال والجنوب وتنمية بسرعتين وعالم غني يستحوذ على خيرات العالم
ويوزع الدمار والحروب في كل ارجاء العالم وشعوب فقيرة محتاجة معوزة في الجنوب تعيش في واقع الدمار والحروب الاهلية والفتن المصطنعة اغلبها خارجيا لجعلها تابعة واسيرة للرعاة الغربيين في المراكز العالمية الكبرى.
سمير امين نموذج للمفكرين الماركسيين الذين تشبتوا بأمل قيام مجتمع إنساني أفضل بدون أن يتأثر بدعوات نهاية التاريخ والانسان الاخير التي راجت منذ بداية عصر الانهيارات الايديولوجية الكبرى، فصمد أمام بريق شعارات الرأسمالية ووعودها البراقة الخادعة، بل وقاوم بتحليلاته ودراساته وممارسته النضالية الانجازات التنموية المفترضة والموهومة للرأسمالية المتوحشة.
نبذه عن حياة الدكتور سمير امين وبعض كتاباته :
ولد الدكتور سمير امين في 3 شتنبر 1931 من اب مصري وام فرنسية امتهنا كليهما الطب، قضى فترة طفولته في بور سعيد المصرية حيث كان تلميذا بالمدرسة الفرنسية وحصل على البكالوريا سنة 1947، والتحق بباريس في نفس السنة الى غاية سنة 1957 حيث
حصل على دبلوم في العلوم السياسية سنة 1952 ودبلوم في الاحصاء سنة 1956 ودكتوراة في الاقتصاد السياسي سنة 1957 من السوربون وكان موضوعها حول التراكم الراسمالي والتطور اللامتكافئ على الصعيد الدولي.
كان الدكتور سمير امين من مؤسسيذ الحزب الشيوعي المصري”راية الشعب” في بداية الخمسينات كما التحق بالحزب الشيوعي الفرنسي وكان يناضل ضمن الحلقات الماوية، حيث انحاز لافكار ماو تسي تونغ، وابتعد عن الافكار الستالينية، التي كانت مسيطرة آنذاك على الاحزاب الشيوعية في العالم.
بعد تخرجه من فرنسا سنة 1957 التحق الدكتور سمير امين ببلده مصر للعمل مساعدا لمدير للمؤسسة الوطنية من سنة 1957 الى سنة 1960 الى جانب المفكر المصري والاقتصادي الماركسي الكبير اسماعيل صبري عبدالله الذي عين اول مدير للمؤسسة الوطنية المصرية لادارة القطاع العام المصري وكانت هذه المرحلة دقيقة في التاريخ السياسي المصري، مع نجاح ثورة الضباط الاحرار على يد محمد نجيب ومن بعده جمال عبد الناصر ، وبدء عملية
التأميمات للمؤسسات المصرية الانتاجية ومحاولة تاميم قناة السويس سنة 1956 بعد مؤتمر باندونغ لشهر ابريل من سنة 1955 والذي عرف بمؤتمر دول عدم الانحياز والعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956.
كل هذه الاحداث السياسية المتلاحقة والهامة في التاريخ السياسي المصري والعالمي اثرت تأثيرا كبيرا في شخصية ونضال الدكتور سمير امين الذي
ساهم بآرائه وتحليلاته الساحة الفكرية والنضالية في اثراء الزخم النضالي الدماهيري من أجل تنمية متمركزة على الذات لاقتصاديات الدول النامية الثالثية، ساهم الدكتور سمير امين في مسيرته النضالية الفكرية والميدانية في تأسيس عدد من المراكز العالمية المهتمة بمناهضة العولمة وبالتنمية الاقتصادية لدول العالم كمنتدى دكار والذي يضم شبكة من الهيئات الدولية والمفكرين التقدميين المعادين للعولمة الراسمالية ومن انصار الاصلاح الاجتماعي والمجلس الافريقي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية لدول العالم الثالث وكان سمير أمين من اوائل المنظرين الماركسيين الذين تنبؤا بانهيار الاتحاد السوفياتي بل انتقده انتقادا شديدا في وقت كان فيه انتقاد الاتحاد السوفياتي واشتراكية الدولة فيه طابوها لدى المفكرين الماركسيين.
بعض مواقف الدكتور سمير امين من القضايا الاقتصادية والسياسية في العالم ( اكتفي بذكر موقفه من الاسلام السياسي و العولمة الراسمالية والدين):
عن الاسلام السياسي يقول سمير امين ما يلي: ”ليست تلك الحركات الاجتماعية المتباينة من جوانب عديدة-ولكن تشترك في زعمها ان ‘الاسلام هو الحل’ –هي حركات دينية بالمعنى الصحيح للكلمة. وبالتالي فان نعتها الشائع بـ”الاصولية” على سبيل المثال هو تسمية خادعة، ولو انها تبدو صحيحة من أول وهلة من حيث الوصف” ويضيف الدكتور سمير امين موضحا رايه في الحركات الاسلامية: “ففي واقع الامر لا تهتم الحركات بالعقيدة الدينية بالدرجة التي ينتظر من علماء الدين ان يهتموا بها .فلا تقدم جديدا في هذا المجال، بل تكتفي بالمفاهيم والممارسات والطقوس السائدة بشكل خاص في المجتمعات الاسلامية كما هي. علما بأنها تطلب من الشعوب المعنية ان تحترم هذه الممارسات والطقوس احتراما حرفيا.فليس لتلك الحركات اذن طابع مشابه لما هو عليه في لاهوت التحرير عند بعض المسيحيين في امريكا اللاتينية خاصة…..
فالحركات الاسلامية هي حركات سياسية ولا غير، وبالتالي فإن تسميتها الصحيحة هي “حركات الاسلام السياسي”.. من يمتنع عن تحليل استراتيجيات الاستعمار المهيمن بصفته نقطة الانطلاق الضرورية لتقويم دور مختلف التيارات السياسية العاملة في الساحة ، من يرى ان هذا النقاش خارج الموضوع، لا يمكن ان يقدم تحليلا صحيحا وتقويما مفيدا لمختلف الحلول المطروحة.”
يقول الدكتور سمير امين عن الراسمالية والعولمة الاقتصادية ما يلي : “القوى المسيطرة هي قوى مسيطرة لانها تنجح في فرض لغتها على ضحاياها .وهكذا استطاع “خبراء” الاقتصاد التقليدي ان يشيعوا الاعتقاد بان تحليلاتهم وخلاصاتهم تفرض نفسها لانها “علمية” ،وبالتالي
موضوعية، ومحايدة ولا غنى عنها .هذا ليس صحيحا.
فالاقتصاد “الصرف” الذي يزعمونه ويبنون عليه تحليلاتهم لا يتعامل مع الواقع، بل مع نظام متخيل يقع على الطرف النقيض من الواقع. هذا الاقتصاد الوهمي يخلط المفاهيم ويمزج التقدم بالتوسع الراسمالي، والسوق الراسمالية .ولكي تطور الحركات الاجتماعية استراتيجيات فعالة ، عليها ان تتحرر من هذا التشويش.” ..مشروع الجواب الانساني على تحدي التوسع الراسمالي المعولم ليس “طوباويا” على الاطلاق، واذا كان هناك “طوبى” بالمعنى السلبي والمبتذل، فهي مشروع إدارة النظام كله من خلال اختزال الادارة الى تضبيط بواسطة السوق…. ليست الراسمالية نهاية التاريخ، ولا الافق الذي لا يمكن تجاوزه في الرؤيا الى المستقبل. انها بالاحرى، فاصلة تاريخية بدأت سنة 1500 تقريبا وبات من الملح اليوم وضع نهاية لها…في برنامج الراسمالية تمثل عملية التسليع المتنامي للكائن الانساني وقدراته الابداعية والفنية والصحة والتربية وموارد الطبيعة والثقافة والسياسة.
كل هذا ينتج تدميرا مثلثا، للفرد، والطبيعة، والشعوب.
والميادين التي تكشف اتساع هذا التهديد بالدمار مترابطة، يلحمها منطق التراكم ذاته…. تسليع الصحة وتخصيصها: دعوة واضحة لتنظيم “سوق للاعضاء البشرية” بات يقتل اطفال برازيليون من اجل تزويدها بالقطع اللازمة .. تسليع التربية وتخصيصها: طريق ملكي لتعميق اللامساواة الاجتماعية، وتحضير مجتمع عنصري للمستقبل ….تسليع صناديق التقاعد وتخصيصها: وسيلة لتغذية صراع الاجيال، بصورة عبثية بالتاكيد…تسليع البحث العلمي: وهو بالمناسبة تخصيص زائف اذا ما اخذنا بعين الاعتبار دعم الانفاق العسكري في الولايات المتحدة مثلا، حيث تستحوذ على الارباح الشركات الكبرى المستفيدة من هذه “الاسواق العامة”…
إن كتاب الراسمالية القائمة فعليا كتاب أسود فعلا، يقول الدكتور سمير امين عن الدين والعلمانية تحديدا ما يلي :”ومن المؤسف ان الكثيرين لا يدركون تماما ماهية العلمانية هذه ومدى اهميتها من اجل بناء مجتمع ديموقراطي على مستوى تحديات العصر.ولعل السبب في رفضهم العلمانية هو انهم يخشون ان تكون العلمانية مرادفا لمعاداة الدين .ازعم ان هذا الخلط لا اساس له .وبالتالي فان العلمانية من شانها ان تحرر الدين من استغلال السلطة له .وبالتالي فالعلمانية من شانها ان تقوي بعد القناعة الفردية الحرة من العقيدة ،وذلك من خلال فك الربط بين الدين والسلطة،وهو ربط يكبل العقيدة باوضاع الدين كظاهرة اجتماعية ذات طابع تاريخي ، وفي هذا الاطار يبدو لي ان العلمانية ليست سمة خاصة بالمجتمعات المسيحية كما يرى السلفيون ، فالمجتمع المسيحي الاوروبي للقرون الوسطى لم يعرف مفهوم العلمانية، بل كان يقوم على مبدأ وحدة الدين والدنيا على غرار ما هو عليه في المجتمعات الاسلامية الان. ان هذه الوحدة تعطي للدين طابعا اجتماعيا غالبا على حساب الاقتناع الحر بالعقيدة، وهو سمة مشتركة لجميع المجتمعات السابقة على الراسمالية.”
في سبيل الختم:
ليس من الصدفة ان يكون من اخر كتابات الراحل سمير امين كتابه الهام الشامل حول الراسمالية الذي عنونه بالفيروس الليبرالي ، حيث اعتبر الليبرالية مرض مزمن ينتقل بسرعة ويقضي على امال الشعوب ويقوض نضالاتها من اجل التحرر والانعتاق من اسر التنمية الموهومة والمزمعة التي تتنبأ بها الراسمالية المعولمة، افنى الدكتور سمير امين حياته مناضلا من اجل تطور متكافئ على صعيد عالمي بين جميع الشعوب ومناضلا ضد ديون انهكت اقتصاديات الدول النامية وناضل اكثر من اجل تنمية متمركزة على الذات تقضي على التبعية الاقتصادية والسياسية التي فرضتها الانظمة الراسمالية في المراكز مستعينة بانظمة طرفية مستبدة تستمد قوتها وشرعيتها من الدعم والحماية من صنيعتها في دول المركز.
لم يكن الدكتور سمير امين ارثدوكسيا بل نادى دائما في حياته من اجل تقويم الاشتراكية من جميع جوانبها الفكرية والتطبيقية ودعا في اكثر من مقال وكتاب وندوة الى تنمية ديموقراطية شعبية انسانية تحاول فك الارتباط تدريجيا مع الراسمالية المعولمة و تنتج طريقا ثالثا يقطع مع اوهام من قبيل ان مجتمع السوق والاستهلاك افضل الممكن وانه يفرض الديموقراطية وحقوق الانسان فيما الواقع يقول يوم بعد يوم بان الديموقراطيات الغربية -قد نقول تجاوزا بانها حققت ديموقراطية سياسية -لكنها في الجانب الاقتصادي والاجتماعي في ازمة حقيقية لذلك نختم بقولة سمير امين في كتابه بعض قضايا المستقبل :”5 خلاصة القول ان الراسمالية لا توفر الشروط الضرورية من اجل تقدم ديموقراطي صحيح ذي مضمون اجتماعي متحرر حتى في المراكز المتقدمة، فكيف في الاطراف حيث لا توفر الراسمالية حتى ادنى الشروط اللازمة من اجل تحقيق ممارسات ديموقراطية على غرار ماهو عليه الامر في المراكز.”