الرئسيةرأي/ كرونيك

يستحق البلاغ الأخير الصادر عن الديوان الملكي وقفة متأنية وهادئة..يونس مسكين يكتب: رسائل القصر عبر العدالة والتنمية

بقلم الصحافي يونس مسكين

يستحق البلاغ الأخير الصادر عن الديوان الملكي، والموجه رسميا ضد بلاغ آخر لحزب العدالة والتنمية، وقفة متأنية وهادئة، ليس لاختبار منسوب الجرأة والشجاعة في تناول مادة قريبة من النواة الحساسة للنظام السياسي، أي اللعب على ثنائية التزكية والاعتراض، بل أساسا لمحاولة الفهم.

معطى الفهم هذا يفرض نفسه بشكل خاص بالنظر إلى عنصر الندرة التي ينطوي عليها هذا البلاغ، ذلك أنه يصدر عن المؤسسة الملكية في وقت يسود فيه صمت القبور في الفضاء العام، وتحديدا من جانب صانعي السياسات وأصحاب القرار.

أي أنه وبصرف النظر عن الطابع “الفرجوي” الذي يمكن أن يستهوي الكثيرين ممن ينظرون إلى الحقل السياسي كنظرتهم إلى مباريات بدر هاري في الملاكمة أو الكلاسيكو في كرة القدم، يهمنا كثيرا قراءة الوثيقة من زاوية طابعها الثمين هذا، والذي يعفينا من عناء الاستنتاج والاستنباط وقراءة الطالع وتعقب حركة النجوم في السماء.

وقبل الخوض في محاولة التفكيك والتحليل هذه، لابد من حسم نقطة أولية حتى لا بيدو ما سيأتي لاحقا كما لو أنه محاولة للالتفاف والهروب من النقطة الحساسة في الموضوع (وإن كانت قليلة الأهمية)، أي هل يتعلق الامر بسلوك إيجابي أم ممارسة سلبية؟ والجواب دون أدنى تردد أننا أمام مؤشر واضح عن مستوى الانحدار السياسي واختناق قنوات التفاعل الإيجابي وضيق مجال النقاش والتداول حول السياسات والقرارات.

صحيح أن الامر يتعلّق بمجرد بلاغ، أي أداة تواصلية مشروعة ومباحة للجميع بدون استثناء، وصحيح أيضا أننا قد نكون، كما أزعم في هذا التحليل، رسائل وغايات تتجاوز المخاطب المباشر بالبلاغ، إلا أن الخطوة تبقى إشارة “بيداغوجية” جديدة للمغاربة كي يزموا أفواههم ويكتموا أصواتهم، وهو أمر شديد الخطورة لأنه بكل بساطة يشبه تأخير الكشف المبكر عن الأمراض… ونتيجة ذلك تعرفونها.

من الناحية الشكلية، نلاحظ أن الاختيار وقع على قناة تواصلية نادرة وغير معهودة، أي إصدار بلاغ باسم الديوان الملكي في مواجهة بلاغ صادر عن حزب سياسي. نعم هناك سابقة حديثة كما ذكرنا الكثيرون، تتعلق بالبلاغ الذي صدر في شتنبر 2016 ضد الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، لكن الأمر هذه المرة مختلف تماما ولا مجال للمقارنة او القياس بله مطالبة حزب العدالة والتنمية برد شبيه بما قام به حزب الكتاب قبل أكثر من ست سنوات.

الفرق أن بلاغ 2016 كان موجها إلى شخص الأمين العام دفاعا عن شخص المستشار الملكي المعني بالتصريحات التي أدلى بها نبيل بنعبد الله لصحيفة الأيام. أي أننا يمكننا اعتبارها احتجاجا (فوقيا ومتعاليا دون شك) من مؤسسة ضد شخصية عمومية “هاجمت” أحد موظفي المؤسسة المحتجة وهي الديوان الملكي.

الأمر ورغم أنه سياسي خالص لكنه بقي في الحدود الشخصية. بينما اليوم نحن أمام بلاغ صادر في مواجهة مؤسسة حزبية رسمية هي الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، في شخص بلاغ لها، أي وثيقة رسمية، وليس مجرد تصريحات صحافية. كما أن الموضوع مختلف تماما، ويرتبط هذه المرة بقضايا سياسية خارجية واستراتيجية، لا بسمعة شخص أو فرد من أفراد الحاشية الملكية.

ملاحظة شكلية أخرى تتمثل في عنصر الزمن، أي مرور 9 أيام كاملة قبل صدور بلاغ قصير (238 كلمة)، ما يعني أن الأمر لا يتعلّق برد فعل متشنج أو غاضب (قد يكون هناك غضب لكنه ليس العنصر الحاسم)، بل يتعلّق بخيارات مدروسة ودقيقة، وإلا ما كان الأمر ليتطلب كل هذا الوقت. إلى جانب ذلك يعتبر اختيار الموضوع عنصرا شكليا دالا، حيث تضمن بلاغ حزب العدالة والتنمية المقصود ببلاغ الديوان الملكي، مواقف سياسية متعلقة بـ11 قضية على الأقل، كما قام الأمين العام للحزب، عبد الاله بنكيران، بخرجات خطابية عديدة وفي مواضيع شديدة الحساسية. لكن الاختيار، وهو عنصر منهجي-شكلي، ذهب إلى النقطة التي يفترض أنها آخر ما يمكن تناوله بشكل رسمي لمجرد توبيخ أو “تأطير” كما يقول أصدقاؤنا الفرنكفونيون، حزب سياسي معين.

لننتقل إلى الموضوع: يخبرنا بلاغ الديوان الملكي مباشرة وفي أول جملة أنه بصدد التعليق على “بيان” لقيادة حزب العدالة والتنمية، “يتضمن بعض التجاوزات غير المسؤولة والمغالطات الخطيرة، في ما يتعلق بالعلاقات بين المملكة المغربية ودولة إسرائيل، وربطها بآخر التطورات التي تعرفها الأراضي الفلسطينية المحتلة”. ثم ينتقل البلاغ إلى التعبير عن مواقفه في شكل فقرات مركزة ومنفصلة عن بعضها البعض، أي أن هناك رسائل دقيقة.

“أولا”، يقول البلاغ، “موقف المغرب من القضية الفلسطينية لا رجعة فيه، وهي تعد من أولويات السياسة الخارجية لجلالة الملك، أمير المؤمنين ورئيس لجنة القدس، الذي وضعها في مرتبة قضية الوحدة الترابية للمملكة. وهو موقف مبدئي ثابت للمغرب، لا يخضع للمزايدات السياسوية أو للحملات الانتخابية الضيقة”.

دون حاجة للتوقف طويلا عند الجملة الأخيرة، إذ لا يوجد في الواقع ما يمكن اعتباره مندرجا ضمن حملة انتخابية، ومحترفو السياسة يعرفون أن الناخب المغربي وخصوصا في السياق الحالي، لا يتطلب اشتغالا مبكرا من هذا النوع.

يتحدث البلاغ عن موقف المغرب من القضية الفلسطينية، وهو ما لم يتطرق إليه بلاغ حزب العدالة والتنمية ولا شكك فيه، بل العكس تماما.

الفقرة المعنية من بلاغ حزب المصباح تستهجن “المواقف الأخيرة لوزير الخارجية الذي يبدو فيها وكأنه يدافع عن الكيان الصهيوني في بعض اللقاءات الإفريقية والأوروبية”، أي أن اللوم والعتاب موجه لشخص الوزير وأسلوبه، بل إن الصيغة التي كتبت بها الفقرة تترك للوزير نفسه هامش حسن نية، حين قال “يبدو فيها…”، أي أنه لا يقصد بالضرورة ما يفهم من حديثه.

والموقف الوطني الذي تحدث عنه بلاغ الديوان الملكي هو بالضبط ما دفاع عنه بلاغ حزب العدالة والتنمية بقوله إن الأمانة تذكر بـ”الموقف الوطني الذي يعتبر القضية الفلسطينية على نفس المستوى من قضيتنا الوطنية العامة تذكر”.

في النقطة الثانية، يقول بلاغ الديوان الملكي إن “السياسة الخارجية للمملكة هي من اختصاص جلالة الملك، نصره الله، بحكم الدستور، ويدبره بناء على الثوابت الوطنية والمصالح العليا للبلاد، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية”.

هذه النقطة وإن كانت بالنسبة إلي من الأمور الواضحة في ذهني مسبقا، إلا أن الصيغة التي جاءت بها جعلتني أشك في أمري وأعود إلى تصفح بعض الكتب المرجعية حول دستور 2011 والبحث عن أطروحات جامعية متخصصة… في الواقع لا يوجد خلاف على أن السياسة الخارجية اختصاص ملكي دون أدنى منازع، لكن أن يضيف بلاغ الديوان الملكي جملة اعتراضية تقول “بحكم الدستور” يثير حفيظة كل من قرأ ولو لمرة واحدة دستور المملكة.

لا يوجد في هذه الوثيقة ما يقول بحصر اختصاص السياسة الخارجية في المؤسسة الملكية، والفصلان 41 و42 اللذان ذهب بعض المعلقين إلى استعمالهما للدفاع عن هذه الفكرة لا يسعفان بتاتا لأنهما يتطرقان إلى عموميات سرعان ما يتبدد غموضها بشأن السياسة الخارجية في فصول أخرى من الدستور.

نعم، الملك هو “رئيس الدولة وممثلها الأسمى ورمز وحدة الأمة…”، بمنطوق الفصل 42، لكن الفصل 55 لم ينص سوى عن اختصاص الملك الحصري والصريح في اعتماد السفراء والتوقيع على المعاهدات… ثم عاد الدستور في الفصل 88 لينص على أن البرنامج الذي يعرضه رئيس الحكومة أمام البرلمان يتطرق إلى “مختلف مجالات النشاط الوطني”، ثم عاد ليذكر أمثلة محددة هي “ميادين السياسة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية والخارجية”.

ثم يأتي الفصل 93 من الدستور ليقول: “الوزراء مسؤولون عن تنفيذ السياسة الحكومية كل في القطاع المكلف به، وفي إطار التضامن الحكومي”، ولم يشر إلى استثناء وزارة الخارجية، كما لم يقم باستثنائه في الفصل 94 الذي يقول: “أعضاء الحكومة مسؤولون جنائيا أمام محاكم المملكة، عما يرتكبون من جنايات وجنح، أثناء ممارستهم لمهامهم. يُحدد القانون المسطرة المتعلقة بهذه المسؤولية”. والواقع ان بلاغ قيادة حزب العدالة والتنمية تحدث عن وزير الخارجية بالضبط.

زيادة على ذلك، يمارس وزير الخارجية مهامه بناء على مرسوم لرئيس الحكومة، أي أن هذا الأخير مسؤول سياسيا، ودستوريا، عن تصرفات هذا الوزير على غرار باقي الوزراء، والنقد الذي يوجه إلى وزير الخارجية يعني أولا الحكومة ورئيسها وليس المؤسسة الملكية، دون أن ينفي هذا حق أي مواطن في مناقشة سياسات بلاده في الداخل والخارج.

مرسوم عزيز أخنوش المتعلق بصلاحيات وزير الخارجية ناصر بوريطة يحيل بشكل مباشر إلى مرسومين سابقين صدر أولهما في عهد حكومة عباس الفاسي وثانيهما في عهد حكومة ابن كيران. والنص الذي يحدد فعليا صلاحيات وزير الخارجية هو الذي يحمل توقيع عباس الفاسي، لان مرسوم ابن كيران لا يتطرق سوى إلى قطاع الهجرة والمغاربة المقيمين في الخارج. أي أن اختصاصات وزير الخارجية ما زالت منظمة بنص صدر في ظل دستور 1996، وما كاين مشكل، آجي نشوفو ماذا يقول هذا المرسوم.

“المادة1: تناط بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون مهمة إعداد وتنفيذ سياسة الحكومة في الميادين التي تهم العلاقات الخارجية للمملكة المغربية”. هذا ما كان في النص الذي يحيل عليه مرسوم عزيز أخنوش المحدد لاختصاصات ناصر بوريطة، وفي نهاية صفحاته الست، نجد توقيعات بالعطف لكل من وزير الخارجية السابق، المستشار الملكي الحالي، الطيب الفاسي الفهري، ووزير المالية حينها، صلاح الدين مزوار، ووزير تحديث القطاعات محمد سعد العلمي.

نعود إلى حقبة الدستور الحالي، ونفتح القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة، في المادة 9 نجد أن أعضاء الحكومة يمارسون اختصاصاتهم في القطاعات الوزارية المكلفين بها، “في حدود الصلاحيات المخولة لهم بموجب المراسيم المحددة لتلك الاختصاصات…”، أي ما أشرنا إليه أعلاه، ثم تضيف المادة نفسها: “وهم بهذه الصفة، مسؤولون طبقا لأحكام الفصل 93 من الدستور، عن تنفيذ السياسة الحكومية في القطاعات المكلفين بها في إطار التضامن الحكومي، ويقومون باطلاع مجلس الحكومة على أداء المهام المسندة إليهم من قبل رئيس الحكومة”. هل من استثناء لوزير الخارجية أو أي وزير آخر؟ لا.

طيب هل أخطأ من صاغ بلاغ الديوان الملكي؟ وهل يعقل أن أطر وفقهاء وفطاحلة الديوان الملكي يجهلون هذه التفاصيل؟ وهل يعقل أن مؤسسة من هذا المستوى والمنحدرة من التاريخ والثقل الدي نعرف، تتجرأ على الدستور والقوانين؟ لا أعتقد ذلك، ليس خوفا من عواقب “تغليط” الديوان الملكي، وهو أمر مثير للخوف بكل صراحة ووضوح، لكن لأنني أعتقد أننا بصدد رسائل واضحة وتأطير جديد للاختيارات الاستراتيجية للمغرب، والمعني بها قد يكون جهات أكبر وأهم وأكثر وزنا وتأثيرا من حزب العدالة والتنمية، وقد يكون معناها المقصود أن المؤسسة الملكية هي من يرسم السياسة الخارجية وهي من يحمل الموقف الوطني، وهي ضامنة لالتزامات المغرب الدولية (المرتبطة باتفاق التطبيع ربما). الصمت عن فقرة بلاغ حزب العدالة والتنمية كان ليحمل على الاعتقاد أن للمؤسسة الملكية موقف آخر.

تأتي النقطة الثالثة ضمن بلاغ الديوان الملكي، لتنتقل إلى مستوى آخر، بعد تدقيق ما تعتبره الوثيقة معطيات، لترتب عليها النتائج. وتقول هذه الفقرة إن العلاقات الدولية للمملكة “لا يمكن أن تكون موضوع ابتزاز من أي كان ولأي اعتبار، لاسيما في هذه الظرفية الدولية المعقدة. ومن هنا، فإن استغلال السياسة الخارجية للمملكة في أجندة حزبية داخلية يشكل سابقة خطيرة ومرفوضة”.

شخصيا أستخرج من هذه الفقرة كلمات مفتاحية أساسية هي: “أي كان”، و”أي اعتبار” و”الظرفية الدولية المعقدة”. بعد هذه العبارات المثقلة بالمعاني يعود البلاغ ليستحضر الحزب المعني مباشرة. لماذا ستحتاج مؤسسة راسخة ومحترمة وعليها إجماع في المغرب إلى الإشارة إلى “أي كان”، وهل جاءت الإشارة إلى الوضع الدولي المعقد اعتباطا؟ لا أظن، فوجود التجاوزات والمغالطات الخطيرة يستدعي الرفض والشجب بغض النظر عن السياقات، خاصة منها الخارجية.

تأتي خاتمة البلاغ لتعطينا ما يبدو بعد قراءات متكررة للوثيقة، أنه المقصود وسبب النزول. “استئناف العلاقات بين المغرب وإسرائيل تم في ظروف معروفة وفي سياق يعلمه الجميع” يقول البلاغ، في خطاب لا نجد في بلاغ الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية ما يستدعي وجوده.

حزب العدالة والتنمية وقّع في شخص أمينه العام السابق، بصفته رئيسا للحكومة، على الوثيقة المؤسسة لـ”استئناف العلاقات بين المغرب وإسرائيل”. والأمين العام الحالي خرج حينها بقوة وصرامة لـ”مساندة” الخطوة والدفاع عنها من منطلق مساندة الملكية. والبلاغ المقصود لقيادة الحزب لم يشر إلى مسألة العلاقات مع إسرائيل بل أشار إلى سلوك وخطاب وزير الخارجية الذي يناقض الموقف الوطني الرسمي للمغرب.

يذكر بلاغ الديوان الملكي بوثائق مرجعية في هذا السياق، ويحيل على بلاغ سابق أصدره في 10 دجنبر 2020. ويتعلق الأمر بالبلاغ الذي أعلن عن اتصال هاتفي بين الملك والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وأن هذا الأخير أخبر الملك بأنه “أصدر مرسوما رئاسيا، بما له من قوة قانونية وسياسية ثابتة، وبأثره الفوري، يقضي باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية، لأول مرة في تاريخها، بسيادة المملكة المغربية الكاملة على كافة منطقة الصحراء المغربية”، وبأن الولايات المتحدة قررت فتح قنصلية لها في مدينة الداخلة (قرار لم ينفذ إلى اليوم).

ثم يذكّر البلاغ بالمكالمة التي جمعت الملك بالرئيس الفلسطيني مباشرة بعد مكالمة دونالد ترامب، والتي اعتبر فيها الملك أن المغرب “لن يتخلى أبدا عن دوره في الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وأنه سيظل كما كان دائما، ملكا وحكومة وشعبا، إلى جانب أشقائنا الفلسطينيين…”.

ثم تنتهي إحالات بلاغ الديوان الملكي بوثيقة الإعلان الثلاثي المغربي-الأمريكي-الإسرائيلي الذي وقع أمام الملك، والذي تضمن الإعلان عن استئناف العلاقات المغربية الإسرائيلية بحضور أمريكي (حضور في هذه العلاقات)، “وقد تم حينها، إخبار القوى الحية للأمة والأحزاب السياسية وبعض الشخصيات القيادية وبعض الهيئات الجمعوية التي تهتم بالقضية الفلسطينية بهذا القرار، حيث عبرت عن انخراطها والتزامها به”، يقول البلاغ في فقرة أخيرة دالة.

إذا تركنا التفاصيل والأحداث الآنية أو العابرة، ومعها النقاش القانوني والدستوري ومفاهيم الغضب و”السخط” التي لا تعني الكثير بدليل عودة نبيل بنعبد الله إلى موقعه السياسي لمرتين متتالتين بعد بلاغ 2016، وعودة سياسي مثل لحسن حداد صدر في حقه بلاغ رسمي من الديوان الملكي يقول بحرمانه من تولي المسؤوليات، ليصبح المكلف (جزئيا) بتدبير العلاقة مع البرلمان الأوربي… إذا تركنا كل ذلك جانبا ما الذي يتبقى لنا من معان؟

شخصيا أحتفظ بالآتي:

• لقد أصبحنا فعليا امام حالة سياسية تقترب من الفراغ، بدليل الغياب الشامل لمؤسسة دستورية هامة وحيوية هي رئيس الحكومة. الوصول إلى تماس مباشر بين المؤسسة الملكية وواحد من مكونات المجتمع يعني أن الدولة أصبحت “عارية” وأن الحكومة الحالية حكومة اضطرار؛

• هناك خطاب متحفظ يبقي على مسافة كبيرة مع إسرائيل وفكرة التطبيع كما يروج لها بعض المحسوبين على جهات رسمية أو شبه رسمية.

بلاغ الديوان الملكي يتحدث عن الموضوع دون أن يمدحه أو يستحسنه أو يدافع عن منافعه؛
• هناك نبرة تبرير واضحة بين ثنايا البلاغ. الوثيقة تقول ضمنيا من خلال ما تقوله صراحة، إن استئناف العلاقات مع إسرائيل اضطرار سببه “سياق يعلمه الجميع”. وهنا لا يمكن للمرء ألا يستحضر سياق “صفقة القرن” التي كانت مطروحة بقوة على الدول العربية وقاومها المغرب طويلا عندما دعي إلى لقاءات في البحرين ووارسو…؛
• هناك تأكيد متكرر على “الموقف الوطني” من خلال التذكير بارتهان السياسة الخارجية بقضية الوحدة الترابية، وهو ما يحمل على طمأنة الخائفين مما تبشر به بعض الأصوات الداعية للانغماس في التطبيع، و”تبرير” الوضع الحالي بجانب ما (مجهول وغامض) مرتبط بقضية الصحراء؛
• تأكيد البلاغ على أن موقف المغرب من القضية الفلسطينية لا رجعة فيه يحمل على الاعتقاد بوجود مساومات او ضغوط او ابتزاز يطالب المغرب بالتخلي عن هذا الموقف؛

• ما تقوله الفقرة المتعلقة بالسياسة الخارجية كاختصاص ملكي، تقابله الفقرة الأخيرة التي تتطرق إلى مبادرة المؤسسة الملكية إلى “إخبار القوى الحية للأمة والأحزاب…”، أي أن السياسة الخارجية حتى وهي اختصاص ملكي لا يمكن ان تستغني عن الدعم والسند الشعبيين. وربما كانت الرسالة الأولى موجهة إلى طرف ما والأخيرة موجهة إلى طرف آخر؛

• المرجعيات التي أحال عليها البلاغ في فقرته الرابعة تنطوي على رسائل طمأنة لكل الخائفين على المصالح الوطنية من مؤشرات الانسياق والانغماس الكاملين اللذين توحي بهما أقوال وخطابات وزير الخارجية ناصر بوريطة؛

في الختام، وبعد قراءتي لكل ما سبق من موقع القارئ والمتلقي، لا أريد أن يُفهم الأمر كما لو كان محاولة لإخراج حزب العدالة والتنمية من عين العاصفة.

مؤشرات الغضب والانزعاج منه ليست غائبة عن المشهد السياسي، أقلها بلاغ وزير الداخلية ضد أمينه العام عبد الاله بنكيران بعد انتخابات مكناس الجزئية. وما قد يبدو “أخطاء” تضمنها بلاغ الديوان الملكي بشأن الاختصاص في السياسة الخارجية، ورده على أمور لا توجد في بلاغ حزب العدالة والتنمية، قد يكون مرده الحرص على تأمين قناة ملائمة لتمرير الرسائل وايصالها بشكل آمن إلى المقصودين بها في الاتجاهين: إلى أطراف الاتفاق الثلاثي على اعتبار أن المؤسسة الملكية ضامنة لالتزامات وتفي بها وتنتظر الوفاء بالتزامات الأطراف الأخرى، والى المعسكر الآخر المناوئ لاسرائيل والمناصر للفلسطينيين.

خلاصتي وقناعتي الشخصية أن البلاغ يرتبط برهانات وتحديات خارجية أكثر مما قد يرتبط بـ”تشويش” حزب سياسي لم يخرج بعد من فترة النقاهة الناجمة عن وقوعه من الطابق الثامن. الحسابات والرهانات الداخلية باتت أهون من أن تتطلب صدور بلاغ رسمي من مؤسسة بحجم الديوان الملكي، وقد تابعنا كيف تمت هندسة الانتخابات والبرلمان والحكومة خارج أدنى صعوبة أو قلق لدى صانعي القرار.

لهذا لا أتقاسم القراءات التي ربطت البلاغ بمسألة تعديل المدونة أو القانون الجنائي، وأضعه بالمقابل في سياق التحولات الدولية والإقليمية المتسارعة، وأستحضر الاتفاق الأخير بين ايران والمملكة العربية السعودية، والكلفة المتزايدة لخطوة التطبيع، وخروج المغرب عمليا من رقعة اللعب الإقليمي وظهور بوادر وقوعه في حالة شرود مؤلمة بوضعه كل بيضه في سلة إسرائيل ومحاربة ايران، وبالتالي يصدق لا ديدي لا حب الملوك.

المملكة العربية السعودية ليست هي قطر أو الامارات العربية المتحدة، مع احترامي للجميع، وبعدما خسر المغرب ورقة ديمقراطيته الداخلية بمسلسل التجريف وإخراس المختلفين، بات مهددا بخسارة أوراق حيوية في شرعية ملكيته وتأثيرها، وأعتقد شخصيا أن اتفاق ايران والسعودية سيكون له ما بعده.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى