الرئسيةثقافة وفنونشواهد على التاريخ

لم يبدل أزرو بأي بقعة من بقاع الأرض..كاتبة مصرية: «المايسترو» موحا والحسين أشيبان و رقصٌ بين جبال الأطلس+صور وفيديوهات

التقى أشيبان خلال مسيرته الفنية بالكثير من الشخصيات العالمية المهمة داخل المغرب وخارجه، ومن أهم هذه الشخصيات بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني، والملكة إليزابيث الثانية.... لكنه ظل دائماً ذلك الفلاح المزارع المنغرس في الأرض، المرتبط بها أشد الارتباط

بقلم الكاتبة المصرية مروة صلاح متولي

أطلق الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، لقب المايسترو على الفنان المغربي موحا والحسين أشيبان، بعد أن شاهد أحد عروضه الفنية في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1984، وكان ريغان محقاً ودقيقاً في وصفه على هذا النحو، وفي إسناد هذا اللقب إلى نجم رقصة أحيدوس الأكبر وأستاذها الباهر.

الفنان المغربي موحا والحسين أشيبان

وأحيدوس أو الحيدوس فن مغربي أمازيغي قديم، يعود إلى آلاف السنين، فالأمازيغ الذين يعدون رافداً رئيسياً من روافد الحضارة المغربية، هم قوم عاصروا الحضارة الفرعونية في غابر الزمان، وإذا كان أجدادنا الفراعنة قد خلّدوا الحياة من خلال الآثار المادية، فإن الأمازيغ المغاربة خلّدوا الحياة نفسها، وخلّدوا اللسان واللغة، والعادات والتقاليد، والثقافة الخاصة والفنون.

ومن أجمل هذه الفنون الخالدة في المغرب، رقصة أحيدوس، التي كان يرقصها الأمازيغ ولا يزالون في منطقة الأطلس المتوسط، وللفنان المغربي الراحل موحا والحسين أشيبان، فضل كبير في النهوض بهذا الفن، ونشره وإذاعته في جميع أرجاء العالم، على مدى أكثر من سبعين عاماً بشكل احترافي. أما تاريخه مع هذه الرقصة فيعود إلى أبعد من هذا بكثير، ويمتد إلى زمن طفولته، إذ كان يرقصها منذ الصغر أمام عائلته، ومجتمعه وأهل قريته التي نشأ فيها، وقد ظل أشيبان يرقص الحيدوس حتى عمر متقدم للغاية ربما تجاوز المئة، بالمهارة ذاتها كأن شيئاً لم يتغير عنده، سوى أنه اكتسب مظهر الشيخ المسن.

الجندي والفلاح والفنان

المايسترو

وُلد موحا والحسين أشيبان في قرية أزرو نايت لحسن، التابعة لمدينة خنيفرة، تلك المدينة الزاخرة بالمواهب والعامرة بالفنون على ما يبدو، والتي إليها ينتمي علم آخر وقطب كبير من أقطاب الثقافة المغربية، هو الفنان الراحل محمد رويشة سيد العزف على آلة لوطار، والمطرب العذب صاحب الصوت النادر والأغنيات الرائعة بالأمازيغية والعربية.

في إقليم الأطلس المتوسط إذن، عاش أشيبان بين الجبال وقممها الشاهقة، والوديان والسهول المنبسطة والتلال والوهاد، وكانت أصالته من أصالة تلك الأرض العتيقة، وفنه من فنون طبيعتها الساحرة، وكان ارتباطه بقرية أزرو كبيراً وعميقاً، على الرغم من أنه كان يغادرها كثيراً ليرقص فوق كل أرض أخرى، إلا أنه لم يعرف مستقراً سواها، ولم يكن يوماً مقيماً في أي مكان آخر.

كان مسافراً زائراً مرتحلاً يجول بفنه، ويعود مسرعاً مشتاقاً إلى أرضه، لم يبدل أزرو بأي بقعة أخرى من بقاع الأرض، ورفض عروضاً مغرية بالإقامة في الخارج، بعضها كان من الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، الذي عرض عليه الإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية.

المايسترو والراحل الحسن الثاني

كان أشيبان موصولاً بالقصر الملكي في الرباط، إذ كان يستقبل ضيوف الحسن الثاني بعرض من عروض أحيدوس الفنية الرائعة، كما قلّده الملك محمد السادس وشاحين، مرة أثناء حياته ومرة أخرى بعد وفاته، من خلال توشيح ابنه الأكبر نيابة عن الأب المتوفى.

كان أشيبان موصولاً بالقصر الملكي في الرباط، إذ كان يستقبل ضيوف الحسن الثاني بعرض من عروض أحيدوس الفنية الرائعة، كما قلّده الملك محمد السادس وشاحين، مرة أثناء حياته ومرة أخرى بعد وفاته، من خلال توشيح ابنه الأكبر نيابة عن الأب المتوفى.

التقى أشيبان خلال مسيرته الفنية بالكثير من الشخصيات العالمية المهمة داخل المغرب وخارجه، ومن أهم هذه الشخصيات بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني، والملكة إليزابيث الثانية، لكنه ظل دائماً ذلك الفلاح المزارع المنغرس في الأرض، المرتبط بها أشد الارتباط، وفي أحد حواراته التلفزيونية يعبر أشيبان عن مدى تعلقه بقرية أزرو قائلاً: «إيوا بلادي بحال أمي، البلاد ديال الواحد بحال أمو وباه، ما نقدرش نبدلها، ما نخرج من بلادي واخا يدبحني».

الفنان الحسين اشيبان

ومن يرى أشيبان في تلك البرامج التلفزيونية، التي تم تصويرها معه في بيته وأرضه وسط قريته، يظن أنه لم يغادر تلك الأرض يوماً، ولم يسافر أبداً في رحلات فنية إلى أمريكا وأوروبا وسائر البلدان والأقطار، ولم يجالس الملوك والرؤساء والأقطاب الروحية الكبرى حول العالم، وهو ما كان كفيلاً بزعزعة كيان بعض الفنانين الآخرين، وإصابتهم بداء الغرور المزمن، الذي لا شفاء منه ولا دواء له، لكن يبقى التواضع دائماً رأسمال الفنان الحقيقي لا من يدّعي الفن.

ولم يكن أشيبان يبدو متواضعاً ثابتاً متزناً وحسب، وإنما غير مكترث بكل هذه الأمور، فلا يتحدث عنها إلا عندما يذكرها محاوره، فيشاركه تناولها من باب أنها وقائع حدثت وانتهى الأمر، كان مكترثاً بفنه وأرضه معتزاً بهما، فكان يتكلم عن أحيدوس بمنتهى الجدية والاهتمام، ولا يمل من التأكيد على ضرورة الحفاظ على هذا الفن، والعناية به وتناقله عبر الأجيال، ويمشي بخطوات فخورة وسط أرضه، وهو يشير إلى تلك الشجرة التي غرسها بنفسه، أو النباتات والمحاصيل التي زرعها بيديه.

وربما يشعر المرء أحياناً بأن شخصية موحا والحسين أشيبان، هي مزيج عجيب بين سمات الجندي والفلاح والفنان، فقد كان أشيبان جندياً وحارب مع صفوف القوات الفرنسية ضد الألمان في الحرب العالمية الثانية، واصطحب معه البندير أو الدف الذي يضرب عليه أثناء الرقص، وكان يسعد أقرانه ويهب أرواحهم بعضاً من الفن الجميل خلال تلك الحرب الرهيبة.

وفي يوم من الأيام طُلب من أشيبان أن يطلق النار على أحد المساجد في مدينة الدار البيضاء، فرفض تنفيذ الأمر وتم حبسه وتعذيبه بسبب هذا العصيان للأوامر العسكرية الفرنسية.

فارق أشيبان الجندية بعد ذلك، لكن أثراً أو أكثر من آثارها بقي في نفسه، كالجدية والانضباط والحزم والقيادة الصارمة، أما الفلاحة والفن فلم يفارقهما حتى آخر لحظة، وإلى أن لم تعد قوته تسمح له بالعمل، وعلى المسرح أو في الفضاءات المفتوحة عندما يؤدي أشيبان رقصة من رقصات أحيدوس، تظهر جدية الجندي وانضباطه، وحزمه وقيادته الصارمة، ويبدو هدوء الفلاح وسكينته وصبره المتأمل، وتتجلى قريحة الفنان وعبقريته وموهبته الفذة.

رقصة أحيدوس

رقصة أحيدوس

في المغرب نجد دائماً ما لا نجده في أي مكان آخر، نظراً لقوة التفرد الثقافي، والتنوع المتحد المتماسك كفسيفساء بديعة الشكل خلابة المنظر، لا تنتهي تفاصيلها المبهرة التي تجعل المرء، ينتقل في ما بينها في رحلة اكتشاف مستمرة، ورقصة أحيدوس جزء من هذه الفسيفساء. ويقال إن هذه الرقصة تشمل أنواعاً متعددة من الأداء، الذي قد يختلف من قرية إلى أخرى، لكننا هنا مع فن أشيبان ورقصة أحيدوس كما كان يقدمها. وأحيدوس فن يميز الثقافة المغربية، نما في أرض المغرب وعملت الجماعة على العناية به، وهو من المأثور الأمازيغي على وجه الخصوص.

كان أشيبان معتزاً بهذا الفن مدركاً لقيمته، مشغولاً به على الدوام ومهموماً بالحفاظ عليه. نشأ فن أحيدوس بشكل فطري تلقائي، ارتبط بنمط العيش والبيئة الثقافية والحضارة القديمة، وهو فن لم يكن يُمارس من أجل اكتساب القوت، وإنما كان طقساً جماعياً يمارسه الفلاحون المزارعون، بعد يوم طويل من العمل الشاق، أو في المناسبات الاجتماعية المختلفة، وكان وسيلة تواصل ثقافي وتبادل للخبرات المعيشية المكتسبة بتراكماتها، وتوصيلها إلى الأجيال المتعاقبة. يتم توارث هذا الفن حتى الآن، ويلمع في ميدانه من تسعفه الموهبة، وكل على قدر موهبته، لكن مع الوقت أو عند موحا والحسين أشيبان على وجه التحديد، تحولت أهداف أحيدوس وممارساته، إلى أهداف وممارسات فنية بحتة في المقام الأول، تُظهر جماليات وتقنيات الأداء، وتُمتع المتفرج في أي مكان من العالم وأياً كانت ثقافته.

في عرض لا يطول كثيراً، إذ يمتد زمن الرقصة الواحدة إلى أقل من عشر دقائق تقريباً، يجتمع العديد من عناصر المتعة الفنية، والتأثير البصري والسمعي والوجداني، ويشيع جو من الدهشة والإعجاب، فعندما يظهر موحا والحسين أشيبان، بهندامه المنتقى والمرتب بعناية ومظهره الأيقوني، يبدو كأنه خرج للتو من لوحة فنية أبدعها رسام ماهر من وحي المغرب، وأن كل شيء مرسوم بدقة، من العمامة إلى البلغة، والجلباب الأبيض والشكارة المزركشة، أو الحقيبة المعلقة على جسده بشكل جانبي بحزامها أو بحبلها أحمر اللون، والسلهام الأسود فوق الجلباب، الذي يكون تحته في أغلب الأحيان سلهام آخر أبيض خفيف، يُظهر المزيد من جمال السلهام والزي بأكمله. وحده أشيبان يرتدي هذا الزي على تلك الصورة، فهو القائد هنا ورئيس الفرقة، أما الفرقة التي تتكون من الرجال والنساء، فتختلف ملابسهم، إذ يلبس الرجال الجلباب والبلغة والعمامة، ولا يرتدون السلهام، وتلبس النساء أثواباً زاهية الألوان، بسيطة لا تبالغ في زينتها وبهرجتها، وأحياناً تكون الأثواب بيضاء اللون، وهي أثواب محتشمة تغطي جميع الجسد، حتى إن شعرهن يكون بعضه مغطى أيضاً بواسطة عصابة يرتدينها على رؤوسهن. هذا بالنسبة للملابس، أما التشكيل والمواضع التي تتخذها الفرقة من أجل أداء الرقصة، فإنها كالتالي، يكون موحا والحسين أشيبان منفرداً في مقدمة المسرح، ويكون أمام الجماعة دائماً ولا ينضم إليها، قد يقترب منه في أوقات معينة، لكنه سرعان ما يبتعد ليتحرك بحرية في مساحته الكبيرة في مقدمة المسرح. والجماعة قد تتخذ تشكيلات دائرية أو متقابلة في فن أحيدوس، لكنها عادة عند أشيبان تصطف بشكل أفقي وراء القائد، حيث تتراص الأجساد وتتلاصق، بل قد يشعر المرء أحياناً بأن الأكتاف تتضاغط بشكل مقصود. تتوزع النساء في الصف بين الرجال، فنرى امرأة أو امرأتين بين كل ثلاثة رجال، وقد يختلف هذا الترتيب، ويظل الصف منضبطاً لا يختل نظامه أو هيئته، رغم أداء الحركات الراقصة، وينسحب الصف في نظام معين أيضاً بعد انتهاء الرقصة لمغادرة المسرح.

أما عزف الإيقاع فيختص به الرجال فقط، هم وحدهم من يمسكون البندير ويضربون عليه، وعلى رأسهم المايسترو موحا والحسين أشيبان بطبيعة الحال، بينما تقوم النساء بأداء بعض الحركات بواسطة الأيدي، إذ تكون الأكف مفتوحة إلى الأعلى كأنها تتضرع إلى السماء، مع ثبات المرفقين في مستوى الخصر تقريباً.

أحيدوس رقصة في الأساس، لكنها فن يجمع بين الرقص والشعر والغناء وعزف الإيقاع، وهناك من هذه الأمور ما يختص به البعض، وهناك ما يشترك فيه الجميع، فالجميع يرقص، لكن موحا والحسين أشيبان هو الراقص المنفرد والنجم اللامع، بل يمكن القول إنه الراقص الوحيد نظراً لما يؤديه من حركات، ويخلقه من تأثير ومشاعر وأحاسيس في نفس المتلقي، أما رقص الفرقة من خلفه فهو أداء لبعض الحركات الخفيفة، والخطوات المنظمة يؤديها الرجال والنساء، وهم واقفون في أماكنهم لا يبارحونها. والشعر يختص به رجل أو اثنان من الجماعة، ويقال إن الشعر قديماً كان يتم ارتجالاً أثناء الرقص، والشاعر هنا لا تكون مهمته كتابة الكلمات المغناة وحسب، بل يغني أيضاً، فلقب الشاعر يطلق على الكتاب والأصوات البارزة في الفرقة، التي تغني المقاطع الرئيسية، وبقية الفرقة من الرجال والنساء تقوم بالغناء أيضاً، وتؤدى المواويل الأمازيغية بواسطة الصوت الأنثوي والذكوري على اختلاف طبقاته، بالإضافة إلى الغناء الجماعي، والترديد الذي تكون له الغلبة بطبيعة الحال، وأحياناً تطلق النساء بعض الزغاريد بطريقتهن الخاصة، والملاحظ عن الغناء بشكل عام، أنه يعبر بقوة عن أهل هذه الأرض في منطقة الأطلس المتوسط، وأنه انعكاس للطبيعة الجغرافية وطبيعة الحياة في تلك المنطقة، فالغناء والمواويل تحديداً تؤدى بصوت عال من طبقة صوتية حادة، ويرتفع الصوت كما لو أنه يريد أن يعلو ويطال قمم الجبال، أو أنه يريد أن يصل ويُسمع من هم وراء هذه الجبال، كما يشعر المستمع أحياناً بأن الصوت يطلق تردداته الخاصة، أو أنه انطبع بأسلوب بطابع تردد الصوت في المناطق الجبلية، ويكون الغناء باللغة الأمازيغية دائماً، إلا أننا نستمع أحياناً إلى بعض الكلمات العربية مثل «سيدي ربي» و»سيدي ومحمد» و»عاش الملك» التي يرددونها أحياناً في نهاية بعض العروض، ويقال إن مواضيع الكلمات والأشعار التي يتغنون بها، تتسع لكل ما يعبر عنهم ويعنيهم في مختلف نواحي الحياة.

أما عزف الإيقاع فيختص به الرجال فقط، هم وحدهم من يمسكون البندير ويضربون عليه، وعلى رأسهم المايسترو موحا والحسين أشيبان بطبيعة الحال، بينما تقوم النساء بأداء بعض الحركات بواسطة الأيدي، إذ تكون الأكف مفتوحة إلى الأعلى كأنها تتضرع إلى السماء، مع ثبات المرفقين في مستوى الخصر تقريباً.

رقصة احيدوس عمق التاريخ وحتى الجغرافيا

والإيقاع هو روح هذه الرقصة وجوهرها، حيث يتصل به كل شيء، والمايسترو هو من يضبط هذا الإيقاع، ويبدله ويغير مساراته ويتحكم في درجات سرعته وبطئه. ويبدو أشيبان على المسرح في جميع أحواله، عندما يرقص ويضرب على البندير وفي لحظات السكون، أنه يعتمد على حاسة السمع أكثر من أي حاسة أخرى، وأن هذه الحاسة تكون مستنفرة في أقصى طاقاتها طوال الوقت، فيكون مصغياً بشدة لما تلعبه الفرقة من إيقاع وفق توجيهاته، ولما يعزفه هو أيضاً وكذلك أثناء الرقص، فإن أذن الراقص مهمة للغاية، وكلما كان الراقص يتمتع بأذن موسيقية حساسة للنغم والإيقاع، زادت براعته في الرقص والأداء المتقن. وإيقاع أحيدوس من الإيقاعات المغربية المتميزة، وله جمال يلمس شغاف قلوب المغاربة ويهز وجدانهم، ويثير إعجاب السامع غير المغربي.

عندما يرقص المايسترو

يظهر موحا والحسين أشيبان على المسرح، بجسد نحيل متوسط الطول ووجه تغلب على ملامحه الجدية، وتميزه عينان حادتان، وتدل وقفته على الثقة والاعتداد بالنفس. يتقدم الفرقة التي اصطفت من خلفه، وعادة يبدأ العرض بالغناء والمواويل الأمازيغية، التي تؤدى بشكل فردي أو ثنائي. ثم يدخل عزف الإيقاع والغناء الجماعي، ويكون أشيبان ممسكاً بالبندير، أو الدف، لكنه لا يضرب عليه في البداية ويظل في حالة إصغاء للفرقة، متابعاً لأدائها، وهو في حركة دائبة على المسرح بخطوات موزونة، لكنها غير راقصة، فعلى المتفرج أن ينتظر المتعة الكبرى قليلاً، وأن يكون متأهباً لتلك اللحظة التي سيبدأ فيها المايسترو الرقص.

يتحرك أشيبان يميناً ويساراً، يقترب من الفرقة ويبتعد عنها، يتواصل بصرياً مع أفرادها، ويتكلم معهم بلغة خاصة صامتة وحدهم من يفهمونها، ويشير إليهم ببعض الإشارات الموحية، أو الأوامر الصارمة التي يجب أن تُطاع وتُتبّع، كإشارات المايسترو في الأوركسترا السيمفوني، مع الاختلاف الكبير بين طبيعة الإشارات وشكل حركات اليد، إنما الاتفاق في الوظيفة القيادية لهذه الإشارات وحسب. يرى المتفرج إشارات أشيبان لفرقته، ثم يسمع أثر هذه الإشارات، إما بالإسراع والإبطاء، أو التوقف وتحول مسار الإيقاع والغناء والرقص، فالفرقة تؤدي بعض الحركات طوال الوقت، مع الحفاظ على انتظام الصف واستقامة الأجساد، وتكون خطوات الفرقة محدودة بالمقارنة مع رقص المايسترو، وتبدو كما لو أنها تعتمد بشكل أساسي، على تبديل الوقوف والارتكاز من القدم اليمنى إلى القدم اليسرى، وهناك بعض الحركات الأخرى أيضاً.

يتساءل المرء أحياناً، أي عاطفة تختلج في نفس أشيبان وهو يرقص؟ إذ يبدو مستسلماً لشعور ما، وقد أوغل في هذا الشعور، كمن دخل في غمرات إلهام الخاطر ووحي الطبيعة، أو كمن دخل في نشوة ما، لكنها ليست نشوة صوفية أو عاطفية، بل هي شيء آخر تماماً كما يظهر للبعض، يمكن أن نصفه بالنشوة الذهنية، فهذا فن قوامه العقل والدقة والتنظيم والانضباط، يخوض صاحبه في عملية ذهنية، بقدر ما يخوض في عملية شعورية فنية.

يتهادى أشيبان ويختال على المسرح بمظهره الأيقوني، فينشأ خيال ما ويستحوذ على المتفرج، ورغم أن أشيبان يظل ممسكاً البندير طوال الوقت، ولا يضعه جانباً مثلاً ليؤدي الجزء الصعب والسريع من الرقصة، يظل لحركة الذراع وإشارات اليد دورها الكبير عنده، فهو يمسك البندير بيده اليسرى، وتكون اليد اليمنى حرة لتضرب عليه، أو لتطلق إشارات وتؤدي حركات مذهلة ومؤثرة للغاية. وهو شيء فريد أن يعتمد راقص على ذراع واحدة، ويوظفها بهذا الشكل الجمالي الرائع، الذي يعد من أسرار أشيبان، كان المايسترو يمد ذراعه إلى الأمام بموازاة أفقية مع الأرض، ويشير بيده كأنه ينادي أحداً ويطلب منه الاقتراب تارة، وتارة أخرى يطلب منه أن ينأى ويبتعد، وأحياناً يحاكي ويتمثل حركة الضرب على البندير والدق عليه، دون أن يفعل، ويتغير وضع اليد، فأحياناً يكون باطن الكف إلى أعلى، وفي أحيان أخرى يكون إلى أسفل.

وعندما يتحرك أشيبان بخطوات مسرعة كأنه طائر يحلّق فوق المسرح، يبدو كأنه يعتمد على تلك الذراع من أجل خلق التوازن، ثم يكون لليد ارتعاشات واهتزازت، لها دلالاتها البليغة والعميقة بلا شك، لكنها تبدو للمتفرج غير العليم بهذه الأسرار، كما لو أن المايسترو يمرر يده على الماء بهدوء، ويداعبه بنعومة ولا يريد أن تثور صفحته وتتماوج، ثم يقرر أن يضرب الماء بقوة ويسبب له الاضطراب. وتتسارع حركة اليد لتؤدي دقات الإيقاع الرئيسية، أو الثيمة الرئيسية للإيقاع إن أمكن القول بذلك، وهي عدة ضربات متلاحقة، تخفت الضربة الأخيرة منها أو تتوقف قليلاُ، لتبدأ من جديد وتتصل بالضربات المتلاحقة، وهذه الضربة أو الدقة الخافتة التي تشكل فاصلاً متكرراً، يكون لها قوة جذب وأثراً جميلاً في نفس سامعها.

يتساءل المرء أحياناً، أي عاطفة تختلج في نفس أشيبان وهو يرقص؟ إذ يبدو مستسلماً لشعور ما، وقد أوغل في هذا الشعور، كمن دخل في غمرات إلهام الخاطر ووحي الطبيعة، أو كمن دخل في نشوة ما، لكنها ليست نشوة صوفية أو عاطفية، بل هي شيء آخر تماماً كما يظهر للبعض، يمكن أن نصفه بالنشوة الذهنية، فهذا فن قوامه العقل والدقة والتنظيم والانضباط، يخوض صاحبه في عملية ذهنية، بقدر ما يخوض في عملية شعورية فنية. وفي أداء أشيبان تتجلى براعة ذهنه وعبقرية فنه، وقدرته على تنضيد الحركة وتنسيق الخطوات، وتوظيف كل العناصر المادية والمعنوية، وتصوير كل ما ينبثق عن عقله وروحه ونفسه، من خلال الجسد في رقص أنيق.

مع تسارع الإيقاع يبدأ أشيبان في الرقص، بخطوات متوسطة السرعة تقع بين المشي والركض، إذ تسبق القدم اليسرى وتتبعها القدم اليمنى، ويدور دورة أو دورتين، أو يهبط إلى أسفل قليلاً عن طريق ثني الركبتين، ويتحرك بشكل أفقي على المسرح، إذ تتجه قد ناحية اليمين وتتبعها القدم الأخرى، أو العكس في اتجاه اليسار.

أما تشكيل الجسد عند أشيبان في وضعية الوقوف التي ينطلق منها الرقص، فيعتمد على أن يكون جانبه الأيسر في مواجهة الجمهور، مع امتداد القدم اليسرى إلى الأمام قليلاً، والرجوع بالنصف العلوي من الجسد إلى الوراء بدرجة خفيفة. ومع حركات الرقص السريعة يتحرك السلهام الذي يرتديه أشيبان، فيطير طرفه ويرتفع ويدافع الهواء، خالقاً شكلاً جمالياً بديعاً ومضفياً مهابة على مرتديه، ومن حركات أشيبان الخاصة التي يؤديها بطريقة فنية أيضاً، قيامه بدفع السلهام إلى الوراء ليستقر مطوياً على كتفه من الأعلى ومنسدلاً من الأسفل. ويلاحظ انفراج القدم اليسرى أو أصابع القدم اليسرى نحو الخارج في أغلب الأحيان، لاتخاذ وضعيات الدوران والرقص وأداء الخطوات الصغيرة الوئيدة، ومن أجمل وأهم الحركات الموحية التي يؤديها أشيبان بجسده، تلك الحركة التي تبدو كمحاكاة لحركة الحصان عندما يكون على وشك الانطلاق، إذ يحرك أشيبان القدم اليسرى مع ثني الركبة قليلاً، وملامسة باطن القدم بخفة لسطح الأرض، أو أرضية المسرح، كأنها خطوة وهمية لأنها لا تؤدي إلى انتقال الجسد من مكانه.

اللافت في هذه الرقصة أنها تخلو من أي ضربات قوية، أو خبطات عنيفة بواسطة الأقدام، بل إن القدم تتعامل مع الأرض في لطف وهدوء حتى في أسرع الحركات، فالتعامل مع الأرض أو خشبة المسرح في رقصة أحيدوس، يتطلب خفة الخطوة ورشاقة الحركة، بالإضافة إلى حساسية بالغة، ودقة تشبه دقة الميزان الحساس، ولعل هذا ما يميز أداء المايسترو موحا والحسين أشيبان، ويجعله فارقاً بقوة وبدرجة كبيرة عن أي أداء آخر لفن أحيدوس، مهما كان هذا الأداء جميلاً.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى