هل يمكن اعتبار طه عبد الرحمن مجرد استمرار لعلي سامي النشار؟
لعل أكبر مشكلة واجهت الفلسفة في العقود الأخيرة هي غياب العقل النقدي الذي كان يضفي عليها الكثير من الحيوية والتفاعل المباشر مع القضايا الراهنة: فكرية ثقافية سياسية واقتصادية واجتماعية. حيث لم يكن من الممكن للمرء أن يكتب دون أن تخضع أفكاره للتمحيص والنقد.
لذلك استغربت عند رجوعي الاضطراري لكتاب نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام للنشار للكم الهائل من المعلومات المغلوطة والخلط بين انماط الفكر التي كلها بالنسبة له فلسفة يضع الكل في سلة واحدة من فلسفة الفلاسفة إلى الغنوص وكل المجالات اللاعقلية، فقلت مع نفسي كيف للمغرب أن يأتي بهذا الأستاذ من المشرق ويدفع له من ضرائب الدولة راتبا شهريا وطلبة لنشر أفكار كهذه.
بالنسبة له المعتزلة عبارة عن تحجر عقلي، نعم تحجر عقلي الفرقة التي أعطت للعباسيين العقيدة العسكرية النظرية التي بها نشرت العقلانية الإسلامية ضدا على لاعقلانية المسيحيين الذين جعلوا من إنسان إلاها بالنسبة له ما هي إلا تحجر عقلي.
وبالنسبة له ابن رشد ما هو إلا ترف عقلي لا دور له في بناء العقل في الإسلام.
فماذا كان يدرس هذا الأستاذ للطلبة في الرباط، ضرب الهوية المغربية التي من أسسها ابن رشد، والخلط بين المجالات الذي لم نكن نجده في الغرب الاسلامي القديم، الذي كان يميز تمييزا دقيقا بين انماط الفكر المختلفة: الفلسفة، التصوف، علم الكلام، علم أصول الفقه، ولا نجده أيضا في المدرسة المغربية المعاصرة. ألهذا عندما كان المجتمع بحاجة ماسة للفلسفة بعد أحداث 16 ماي وجدها مشلولة فاقدة للبوصلة، عاجزة عن تمييز الفلسفة عما ليس بفلسفة.
طه عبد الرحمن يسير في نفس الاتجاه إلا إن كان لتلامذته رأي آخر، والأخطر هو أنه مد هذا الفكر بالأدوات المنطقية المعاصرة لتعميقه وترسيخه أكثر، فكالنشار سيعتبر ابن رشد مقلدا وهو واضح من كتاب تجديد المنهج في تقويم التراث، بل متكلما حسب بعض أتباع طه عبد الرحمن،
ومثله سينتصر لعلم الكلام والحجاج والمناظرة كما هو واضح من كتاب في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، الذي هو السبب في كتابة هذه التدوينة، حيث يقول في الصفحة 157 منه ناقدا للجابري:
“فادعاؤه بيانية “العقل العربي” لا يخلو من أحد الأمرين: إما أنه بناه على طريق “برهاني”، وإما أنه أخرجه بطريق “البيان”. وقد بينا أن “البرهان” ممتنع على كل نظر يصاغ بواسطة اللسان الطبيعي، وكلام صاحب الدعوى كما هو معلوم في مسألة “العقل العربي” وارد على سنن الخطاب الطبيعي، فأحكامه وافتراضاته إذن لا يمكن أن تكون “برهانية” بالمعنى الذي قال به، وإذا سقطت “برهانية” دعواه، ثبتت بيانيتها. ومعلوم أنه لا يقول بيقينية المعرفة “البيانية” ولا بعلميتها بل يقول بإعاقتها الفكر العلمي، وما أجراه على المعرفة “العربية” عامة، أحق أن يجري على هذه الدعوى الخاصة، فهي إذن ليست بيقينية ولا بعلمية، بل هي دعوى تعوق العلم.” انتهى قول طه عبد الرحمن.
وهذا أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه العجب العجاب فقوله: “وقد بينا أن “البرهان” ممتنع على كل نظر يصاغ بواسطة اللسان الطبيعي،” خاطئ تماما، بل كل إنجازات المرحلة العربية الاسلامية في تاريخ الرياضيات لم يكن باللغة الصورية بل باللسان الطبيعي واللغة الطبيعية لم تمنع الرياضيين من الإبداع.
لقد رفض ابن البنا التمثيل الرمزي لعملياته وتسلسل البرهنة كله كتبه باللغة الطبيعية، لأن الرياضيين يرون في التمثيل والمعاينة ضعفا في التصور، حتى أنك لتعجب كيف تصوروا براهين رياضية دون تمثيلها ومعاينتها.
فلا علاقة عضوية بين البرهان واللغة الصورية، وبدون هذه الأخيرة وصل الرياضيون في المرحلة المذكورة إلى اعلى درجات التجريد، حتى أنك لتعجب كيف استطاعوا أن يتصوروا القضايا الرياضية دون التمثيل الرمزي لها وهو السبب الذي دفعني لوضع صورة لهذا الكتاب الرفيع المستوى والذي رفض فيه ابن البنا الرموز الرياضية كما قلت سابقا، بالرغم من انتشارها إذاك، وهذا لا يمنع من القول بأن الترميز ساهم في التطوير السريع للرياضيات.
وهو يتقول على الجابري ولا من رد عليه لغياب الرؤية النقدية التي بدونها لا يمكن للفلسفة أن تعيش. الجابري لا يقول كما ادعى طه عبد الرحمن في الفقرة التي أوردناها بلا يقينية المعرفة البيانية لا بعلميتها بل يقول بإعاقتها الفكر العلمي. الجابري لا يقول هذا الكلام الجابري لا يقول بإعاقة البيان للفكر العلمي، بل يمجد البيان ويعتبره معقولا دينيا والبرهان معقولا فلسفيا والتحالف بينهما هو الذي صنع التقدم، والاختلال الذي وقع هو عندما بدل التحالف مع البرهان، تحالف البيان مع العرفان في العصور المتأخرة، فحصل التخلف، هذا ما يقوله الجابري.
ولكنه البحث عن الشهرة بنشر خطاب كانت كل الظروف التاريخية لعقد الثمانينات وما بعده قد وفرت له الشروط، ولا يهم المس بالهوية العقلية المغربية ولا بالانحراف بالشباب المغربي نحو اللاعقل، ولا بشل مسالك الفلسفة، ولا بجعلها اقل الشعب استقطابا، لأنها وهي بنت الواقع، بنت السوق في أثينا سقراط، سقطت في المحاججة والحجاج والسفسطة.