الناقد السينمائي محمد بكريم يكتب: الفيلم الوثائقي دينامية جديدة أم هوية جديدة + فيديوهات وصور
“أحيانا نضطر أن نكذب من أجل الوصول الى الحقيقة”…روبير فلاهرتي (1884-1951)
مؤشرات عدة تسمح بالحديث عن نوع من الدينامية يعرفها الفيلم الوثائقي وتسمح أيضا واساسا بتجديد سؤال الفيلم الوثائقي كجنس سينمائي مستقل أو متميز. فما هي هذه المؤشرات وماهي طبيعتها وهل يمكن مساءلة تاريخانيتها.
وقد شاءت الصدف أن يكون أول فيلم مغربي يحصل على الجائزة الكبرى لمهرجان مراكش (النجمة الذهبية) هو فيلم “كذب أبيض” لأسماء المدير المصنف مؤسساتيا ضمن خانة “الوثائقي” (أقول مؤسساتيا لأن الفيلم في حد ذاته يطرح بقوة سؤال هوية الفيلم الوثائقي).
وهذا التتويج الذي جاء في سياق نجاحات أخرى حققها الفيلم سواء في مهرجان كان أو بوصوله الى اللائحة القصيرة لجوائز الاوسكار…هو جزء من كل.
جزء من حركية طبعت الفيلم الوثائقي المغربي في السنوات الأخيرة.
أشير بإيجاز الى بعض المحطات المهمة في هذا الاتجاه. منها التغيير الذي طرأ على القانون المنظم للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة والذي تجلى في تخصيص مسابقة مستقلة للفيلم الوثائقي بلجنته الخاصة وبجوائزه الخاصة أيضا (رغم قلتها). ثم أيضا التعديل الهام الذي شمل القانون المنظم للجنة دعم الانتاج السينمائي الوطني التي لم تعد مكبلة ب”كوطا” سنوية (مشروعين) للفيلم الوثائقي.
مع الوضعية الجديدة يمكن للجنة أن تختار العدد الذي تراه يستحق الدعم دون تمييز مسبق. ونحن نتحدث عن الدعم العمومي للسينما تجدر الإشارة الى الفيلم الوثائقي الحساني الذي اغنى الخزانة الوثائقية المغربية بأفلام هامة جدا وناجحة الى حد كبير فنيا وثقافيا.
ومن المعبر أيضا أن نشير الى الحضور الوازن كما وكيفا للفاعل السينمائي النسائي كرافعة للفيلم الوثائقي الجديد. ولعله معطى حافل الدلالات الثقافية والانتروبولوجية منها مثلا وبعجالة علاقة المرأة بالزمن الاجتماعي وحاسة التقاط العلامات المنفلتة من القواميس الجاهزة. واغامر بهذا الزعم وعيا مني بأن المسالة تتطلب وقفة افتحاصية متأنية (ولما لا على شكل فيلم وثائقي من انجاز…امرأة).
ولابد أيضا أن نضع هذه الحركية في سيرورتها التاريخية. فللسينما الوثائقية المغربية عمق تاريخي حقيقي، حافل ومتنوع، بل كثيرا ما أقدم طرحا يزعج البعض عندما أصرح بأن الستينات من القرن الماضي شكلت نوعا من العصر الذهبي للفيلم الوثائقي السينمائي.
مرحلة لها عناوينها البارزة وأسماؤها الرمزية. هكذا تذكير لنسجل بأن الجيل الجديد يشكل نوع من الاستمرارية وينخرط ضمن محطات مميزة.
أول جائزة دولية لفيلم مغربي سيحصل عليها فيلم وثائقي وهو تحفة محمد عفيفي “العودة الى اكادير” (1967) الذي توج بالجائزة البرونزية في أيام قرطاج السينمائية، ثم الحضور اللافت بمهرجان كان للفيلم الجميل “ليام ا ليام ” لأحمد المعنوني (1978)، بالإضافة الى فيلمه الوثائقي حول ناس الغيوان “الحال” (1981) الذي حظي بإعجاب كبير من لدن المخرج العالمي مارتن سكورسيزي وساهم في تجديد نسخته الاصلية.
علما أيضا ان عدة دورات من المهرجان الوطني للفيلم عرفت تألق وأحيانا تتويج أفلام وثائقية تشكل علامات مضيئة في مسار الفيلم الوثائقي: أماكننا الممنوعة (2008) ليلى الكيلاني، أشلاء (2010) لحكيم بلعباس، أرضي (2012) لنيل عيوش، تكمي نيكران (2018) طالا حديد…
وهذه الحركية المغربية تنخرط أيضا في سياق عالمي يتميز بالعودة القوية للسينما الوثائقية.
وتتويج فيلم “الداهومي” للسنغالية-الفرنسية ماتي ديوب بالجائزة الكبرى لمهرجان برلين مؤشر دال في هذا الاتجاه.
والدلالة هنا منفتحة على عدة قراءات. تستدعي تفكيكا متأنيا. على مستويين على الأقل وتستدعي مقاربتين. يمكن مثلا مقارنة هذا المد الوثائقي (المصريين يتحدثون عن التسجيلي) مع الجنس السائد تجاريا وهو التخييلي (أفضل مصطلح التخييلي عوض الروائي لأن الوثائقي روائي بشكل ما أيضا).
وهل هذا يعني عجز التخييلي في مقاربة عالم معقد (ادكار موران) وإعادة صياغته سينمائيا. بشكل ما هذا المعطى صحيح ويتجلى في استنزاف التخييلي لقدراته وفي لجوئه الى التضخم التقني: عودة البطل الخارق، استهلاك المؤشرات الخاصة الرقمية لأبعد حد بدون معنى (انظر الجزء الثاني من dune ).
ولكن التساؤل الاستراتيجي الذي تطرحه هذه الأفلام الوثائقية الجديدة ذو صبغة هويتاية. تتعلق بكينونته. سؤال الهوية السينمائية لهذه الأفلام هو السؤال النقدي الراهن.
يقول كودار “سؤال الهوية سؤال رجال الجمارك”. ورغم ذلك لا نتردد على طرحه على هذه الأفلام ومنها كنموذج فيلمين مغاربيين “كذب أبيض” لأسماء المدير و”بنات أولفا” لكوثر بنهنية.
في عجالة أقول بأنها ليست وثائقية بالمفهوم الكلاسيكي للتصنيف. وربما العنوان البليغ لفيلم المدير يجيب عن هذا التساؤل (العنوان بالفرنسية «أم كل الأكاذيب” بليد شيء ما في اشارته الى حرب الخليج).
فكذب أبيض لا يحيل فقط داخل قصة الفيلم الى السرديات الاجتماعية التي تساهم في إعادة نسيج اللحمة العائلية أو الوطنية ولكنه بشكل ذكي يلمح أيضا الى الطبيعة الخاصة للفيلم.
فالقول بكونه فيلم وثائقي عبارة عن “كذب ابيض”. تماما على حد تعبير روبير فلاهرتي ، الاب التاريخي للفيلم الوثائقي انطلاقا من فيلمه المرجع “نانوك” (1922) الذي كان واضحا عندما اقتنع بأن الوثائقي يفرض أحيانا الكذب “من أجل الوصول الى الحقيقة”.
عود على بدء. انها فعلا أفلام جديدة بهوية جديدة. ليست بالوثائقية وليست بالتخييلية وليست بالدوكي-فكسيون. انها سينما بنت زمانها. الزمن الهجين.