العلم بين البساطة و التعقيد
الطائفة العلمية متفقة الان على نسبية المعرفة. فإلى جانب تأثير بيئة الثورة الصناعية واتجاهات الفلسفة الغربية في القرن التاسع عشر، ارتكز المفكرون انداك ومن ضمنهم المفكرون الماركسيون على قوانين الفيزياء السائدة في زمانهما. تراجعتْ الفلسفة الميتافيزيائية، وبدا العالم المادي وكأنه موجود، موضوعيًّا، منذ الأزل ويستمر سرمديًّا. لكن في القرن العشرين تغيرت عدة مفاهيم علمية: الحتمية، الزمان ،الموضوعية ، الواقع والتوليد..ومن تم وقع تغير في فهمنا لقوانين الطبيعة ذاتها: وظهرت فرضيات “الانفجار الكبير” Big Bang و”الثقوب السوداء” Black Holes، وأن ثمة بدايةً ونهايةً للأجرام في كوننا، وتذهب فرضيات أخرى إلى أن الكون يتوسع. بيد أن حدَّه اللانهائي، ماضيًا ومستقبلاً، لم يعد يقينيًّا، بل هو يستمر موضوعًا للبحث العلمي المتواصل نحو فهم أصْوَب لعلاقة المادة بالزمن.
لقد اصبح الكون حسب النظرة العلمية الحديثة الآن يسير نحو إنتاج هياكل جد معقدة. ويبقى الجسم الأكثر تعقيدا هو دماغ الإنسان٬ المكون من ملايير النورونات و ملايين الملايير من التوصيلات.
العالم المحيط بنا هو غاية في التعقيد و مملوء بأشياء عجيبة و مدهشة٬ فحبة صغيرة تصبح شجرة كبيرة٬ و الزوابع تمسح المحيطات بشكل دائم٬ أما البراكين فتؤنبنا لما تنفجر و ترش الأرض بشلالات من السوائل…
التعقيد موجود في كل مكان و تعميمه يمكن أن يكون عملا تتلاقى فيه حقول معرفية مختلفة كالفيزياء٬ و السوسيولوجيا ٬و المعلوميات٬ و الذكاء الاصطناعي٬ و البيولوجيا… الخ. لكن و لحد الآن فالطرق المؤدية لنقط الالتقاء المحتملة تبقى غير واضحة بشكل جيد٬ لكن بعض الأبحاث الأولية يقول المفكرالفرنسي برنارد ياسبانيات تبدو اليوم وعادة بالتقدم.
إن فكر التعقيد هو تجاوز للإفراط في القوانين الكلية التي تبناها علم القرن 17 و 18، فالعلم الكلاسيكي قام بعمل جبار في مناهضة مقولة الكل لغز ” كمسلمة لعلوم ماقبل الحداثة٬ و الآن نعرف الثورة التي خلقها التصدي لهذه المقولة.
فتشتيت اللغز في الحياة العادية يحرض على الكسل الثقافي٬ و الاعتقاد باللغز ينشر الثقة العمياء في الشعوذة و الدجل و بالتالي ينجم عن هذا فكر التعصب بنتائجه الكارثية.
العلم الكلاسيكي سقط هو الآخر في اختزال علموي ،ناصر و لو بخجل ” الكل واضح” و الذي يوهم بأن بضع كلمات بسيطة كافية للجواب على الأسئلة الجوهرية التي تواجه العلم الآن . إن مناهضة فكرة «الكل لغز» ، يقول المفكر الباريزي برنار سبانات” ،لا تعني أن « كل شيء واضح »٬ كما أن القطيعة مع المعرفة التامة والأمينة لا تعني « كل شيء غامض» .
فالتعميم يؤدي في بعض الأحيان إلى « اللا معلومة » حيث يسرب الإنسان داخل نموذج علموي سيماته مبادئ أولية بسيطة و يقودنا وبسهولة إلى تمويه « بساطة مصطنعة» على «تعقيد/ تنوع» لا محدود لعالم حقيقي.
– تعقيد الواقع وحوار الذات والموضوع
عصر المعرفة الحديثة إذن هو عصر التعقيد والحقيقة المؤقتة و اللا يقين الذي لا يعرفه إلا يقينا واحدا ، يقين الحركة والنسبية وتجديد الجديد. وتبقى التحديات الأكثر صعوبة ، قول المفكر الفرنسي ادغار موران هي تغيير طرق تفكيرنا لمواجهة التعقيد المتصاعد ومعرفة المعرفة كسلاح في مواجهة الإخطار الدائمة لعدم الوقوع في الخطأ والوهم اللذين لا يتوقفان عن التشويش على العقل الإنساني. معرفة تسمح بتمثل العلاقات والتفاعلات بين الأجزاء والكل داخل عالم التعقيد.
إن العلاقة التي تقوم بين الذات والموضوع في المعرفة العلمية علاقة معقدة ،فلا وجود لواقعة علمية تستند إلى معطيات مباشرة فقط من دون مبادئ عقلية ،كما أنه لا وجود لمبادئ عقلية ،من دون معطيات مباشرة. ولما كان العلم يهدف إلى تحقيق المعرفة النظرية ، فهذه الأخيرة هي ثمرة العلاقة المركبة بين العقل والطبيعة.
وإذا كانت العلاقة بين الذات الموضوع قد فهمت في المراحل المبكرة من تطور العلم على أنها حوار بين الذات والموضوع المناقض لها؛ فإن العلم المعاصر قد دلل على تعقيد هذه العلاقة.
إن تطور العلم الفيزيائي الحديث أفضى إلى تعقيد الواقع. فبذلا من البساطة الفيزيائية والمنطقية المفترضة تم اكتشاف التعقيد المايكرو فيزيائي في أقصى حدوده : فالذرة ليست الحجرة الأولى بل هي تجمع لمكونات عديدة معقدة غير قابلة للتمثيل ٬كما أن الكون سيرورة في طور التفكك والتنظيم في آن واحد . فالفكر المركب وحده يمكننا من تحضير معرفتنا له . كان جورج لوكاش يقول في شيخوخته ” يجب تصور المركب كعنصرا أولي موجود ” ويستنتج من ذلك أنه يجب أولا معالجة المركب بوصفه مركبا، ثم الانتقال إلى عناصره وسيرورته الأولية.
يرى ادغار موران في التعقيد ظاهرة كمية للتفاعلات والتداخلات بين عدد كبير من الوحدات ،كما هو الحال في الذرة والخلية حيث تشمل الواحدة على عدد من الايقينيات و اللا تحديدات والظواهر الصدفوية.
إن التعقيد هو ذاته اللا يقين وهذا نفاد للحتمية في العلم الكلاسيكي. بفضل تطور علم الفلك على المستوى الماكر وفيزيائي والمايكرو فيزيائي نعرف أننا نحمل في أجسامنا جزيئات يرجع تاريخها إلى الثواني الأولى من ميلاد الكون. فكياننا المادي يحمل ذرات من الكاربون تكونت في قلب نجوم سابقة على شمس منظومتنا، إننا نحمل في داخلنا الخلايا الحية الأولى لظهور الحياة على الكوكب.
إن المايكرو فيزياء لم تفتح الطريق أمام علاقة مركبة بين الملاحظ الملحوظ فحسب ، ولكن فتحت الطريق أيضا على مقولة مركبة ومظللة جدا وهي الجزيئة الأولى التي تقدم نفسها للملاحظ تارة كموجة وتارة كجسيم . إن للتعقيد دائما صلة بالصدفة ، إنه اللا يقين بعينه المترسخ داخل الأنساق المنظمة بشكل ثري . إنه مرتبط بنوع من الخليط العميق بين الاستقرار والاختلال.
لما كان العلماء يتكلمون عن البساطة الجوهرية للطبيعة كانوا يعتقدون أن الكون الذي نعيش فيه أسس على مبادئ بسيطة.فرغم تعقيد الظواهر الفيزيائية الملاحظة، فإن جل العلماء كانوا يسلمون وبشكل مطلق بأن القوانين الجوهرية للطبيعة ليست كذلك. فإذا كانت جل أبحاث العلماء في الماضي انطلقت بقوانين بسيطة فلأن العلوم في بدايتها لم تكن تسمح بفهم ما هو معقد.
– – دحض الكل لغز لا يعني ان الكل واضح
إن معرفة أي جسم ـ كما هو حقيقة ـ تفترض معرفة جميع صفاته بطبيعة نهائية .
لكن أغلب العلماء والفلاسفة يشكون في قيمة ومعنى هذه الفكرة٬و التي حسب برناردياسبانيا فيها ادعاء و غرور. أما بالنسبة لهانس بريما فلا يمكننا التكلم عن جسم له خصوصيات حقيقية إلا إذا استبعدنا عدة تفاصيل. وبناء ا على هذا فلا
يمكننا التكلم عن الجسم كما هو.objet en soi
إن منظومة التعقيد هي اختبار لمحاورة العالم الدينامي٬ الصدفوي و المتنوع. أما منظومة التبسيط٬ يقول إدكار موران٬ باختيارها نظام التبات و الخلود و الأصل و الهوية و الاستمرارية قامت بتجاهل هائل للأسئلة لا يجاب عنها بصدد التحول٬ و الفوضى٬ و التجدد٬ و الخلق٬ و التعقد٬ و الصدفة٬ و الاختلال و اللانهائي٬ و اللا يقين. إن كبح الأسئلة يعقد من فهم و معرفة أدق للعالم و الكون بعد الاكتشافات الفيزيائية لكوانتوم الطاقة و للأنظمة المختلة و العلوم النسقية عموما٬ التي تطلب أدوات وأطر ينظمها فكر المركب القادر على تمثل الوجه الجديد لعالم دينامي ، صدفوي ،متنوع ، ومتحول ولا نهائي.
إن مهمة فكر التعقيد هي تغيير هوية العالم الذي ارتكز فهمنا له على منجزات العلم الكلاسيكي، ولكي نفهم مشكلة التعقيد يجب أن نعلم إن هناك منظومة خاصة بالبساطة وهي منظومة تقوم بتنظيم الكون بإقصاء الاختلال من داخله ،وهنا يتم اختزال النظام في قانون ومبدأ معينين. إن البساطة ترى إما الواحد وإما المتعدد ولكنها لا ترى أن الواحد قد يكون في الوقت ذاته متعدد، لنأخذ الإنسان مثلا فهو كائن بيولوجي وهو في نفس الوقت واحد ومختلف عن اللحظة الأولى من نشأته . فزيادة على المادة البيولوجية فهو في وقت ذاته كائن ثقافي يعيش داخل كون من اللغة و الأفكار.