طرحت. مؤسسة “وسيط المملكة”، في تقريرها السنوي لعام 2023 ما يعرفه الجميع ويعايشه الجميع، ولكن بصيغة رسمية وبلغة مُحترفة عنوانها البارز، أن الإدارة المغربي مستمرة في ظلمها، والفساد أصبح العُرف السائد وسطها، وأنها الأشد مقاومة للتغيير، وأن ضحاياها في ازدياد، وأن كلفته الاقتصادية والاجتماعية باهظة الثمن.
التقرير لم يكتفِ بالإشارة إلى المشكلة، بل أغرقنا بأرقام تؤكد أننا نعيش أزمة إدارية متجذرة، فخلال السنوات الخمس الأخيرة، استقبلت المؤسسة حوالي 29270 ملفاً، بمعدل سنوي يقترب من 5854 شكوى، وكأنها تُعدّ لنا نشرة إخبارية يومية عن إخفاقات الإدارة المغربية، والأكثر إثارة للدهشة هو تصاعد نسبة التظلمات الإدارية، التي انتقلت من 57% في 2019 إلى 74% في 2023،فيما يبدو وكأن الإدارة المغربية قد قررت ألا تخذلنا؛ فهي تُطور أخطاءها بوتيرة ملحوظة وبنسبة نمو سنوي بلغت 12.63%.
المثير هو أن الغالبية العظمى من التظلمات، تحديداً 93.75%، تتركز في أربعة مجالات رئيسية، وبدل التوزيع العادل للأولويات في الإدارة احتل الفساد موقع “الريادة”، وتصدرت عبره التظلمات المشهد كالعادة، تلتها التظلمات المالية التي تُبرز قدرة الإدارة على إبداع طرق جديدة لاستنزاف المواطن. أما التظلمات العقارية، فقد جاءت لتُذكرنا بأن حلم امتلاك قطعة أرض قد يتحول إلى كابوس إداري. وأخيراً، تأتي التظلمات المتعلقة بعدم تنفيذ الأحكام القضائية، وهي دليل قاطع على أن حتى قرارات القضاء تجد نفسها أمام حائط بيروقراطي صلد.
يمكننا على سبيل التلخيص حصر ما عرضه تقرير المؤسسة، في تعقيد الإجراءات وبطء المساطر، إذ ذكر أنه و رغم الجهود المبذولة لتحفيز الاستثمار، لا تزال بعض الإدارات تتبع إجراءات معقدة وبطيئة، مما يعرقل إنشاء المقاولات والحصول على التراخيص اللازمة.
سجل التقرير أن الإدارة لا تتفاعل مع التظلمات، إذ سجل زيادة بنسبة 30% في عدد التظلمات المقدمة للمؤسسة مقارنة بالعام السابق، مما يعكس استمرار التحديات في تفاعل الإدارات مع شكاوى المواطنين.
أشار التقرير إلى أن بعض المستفيدين من برامج الدعم الاجتماعي، مثل برنامج “فرصة”، يواجهون صعوبات تؤدي إلى فقدانهم التغطية الصحية والحماية الاجتماعية، مما يثير تساؤلات حول فعالية هذه البرامج.
انتقد التقرير تخلف بعض الإدارات عن تنفيذ قراراتها، خاصة تلك المتعلقة بتسوية الوضعيات الفردية للموظفين، مما يؤثر سلبًا على الأداء الإداري ويضعف الثقة بين المواطن والإدارة.
لكن التقرير لم يتوقف عند الأرقام؛ فقد ذهب أبعد من ذلك ليُحلل الأسباب الجذرية لهذه الأزمة، إذ من الواضح أن الإدارة المغربية تعاني من فقدان كامل للمرآة، فهي غير قادرة على رؤية أخطائها وتكتفي بالتعامل مع التظلمات كحالات معزولة، وكأنها مجرد “حوادث عرضية”، إن المشكلة هنا ليست في الأخطاء العرضية، بل في سلوك إداري متأصلل وبنيوي يعتبر الفساد جزءاً من “الهوية” المهنية.
المفارقة اللافتة أن الإدارة، التي من المفترض أن تكون أداة للإصلاح، أصبحت عائقاً رئيسياً أمامه، فالممارسات التي وُثّقت في تقارير “وسيط المملكة” السابقة لم تختفِ، بل ازدادت ترسخاً، وكأن الإدارات تتحدى الزمن والعدالة والضمير المهني في سباق محموم نحو قاع جديد، فيما يبدو أن بعض الإدارات قد تبنّت استراتيجية “التطنيش” كسياسة رسمية، حيث تتجاهل الرد على تظلمات المواطنين أو تُماطل حتى يفقد المواطن الأمل أو الزمن، أو ربما كليهما.
والأنكى من ذلك أن هذه السلبية نفسها تمتد إلى تعامل الإدارات مع القضاء، حيث تُفضل عدم الرد على الدعاوى القضائية، مما يؤدي إلى صدور أحكام ضدها، و بعد ذلك، تظهر فجأة لتقديم تبريرات واهية كان من الممكن أن تُغيّر مجرى القضية لو أنها قدّمتها في الوقت المناسب.
إنها البيروقراطية التي تبدع في هدر الجهد والوقت وكأنها تُصر على إثبات أنها تعمل بفعالية… في تعطيل العدالة.
ولا يخفى على أحد أن الفساد الإداري أصبح معيقاً حتى للاستثمار، إذ أشار التقرير إلى أن تعقيد الإجراءات وبطء المساطر في منح التراخيص الإدارية للاستثمار أصبحا نموذجاً يُدرّس في كيفية قتل الفرص الاقتصادية، على الرغم من كل التشريعات التي تهدف إلى تبسيط المساطر، لا تزال الإدارة تُقاوم الانسيابية وكأنها تُدافع عن “حقها المشروع” في التعقيد.
في النهاية، ما يكشفه تقرير “وسيط المملكة” هو أننا أمام إدارة تنظر إلى التظلمات ليس كفرصة للإصلاح، بل كفرصة لتعزيز ثقافة اللامبالاة، و يبقى المواطن المغربي، الذي يقضي ساعات طويلة في طوابير لا تنتهي ويُرسل شكاوى لا تجد صدى، ربما يُدرك الآن أن النظام الإداري لا يُصلَح بالقوانين وحدها، بل بحاجة إلى ثورة في الثقافة المهنية، بل إنه يحتاج لإصلاحات سياسية ومؤسساتية تنهي مع الريع، وتنهي مع تداخل المسؤوليات، وتعزز فعليا ربط المسؤولية بالمحاسبة.
إذا كان الفساد هو المرض فإن عدم المحاسبة هو الوباء الذي يُغذيه
الإدارة المغربية تُشبه ممثلاً بارعاً في لعب دور الضحية، ولكنها في الحقيقة صانعة الفوضى، وبينما تواصل “وسيط المملكة” إصدار تقاريرها وتحليل الأسباب، يبقى المواطن عالقاً في حلقة مفرغة من الوعود والانتظار، فهل من أمل في كسر هذه الحلقة؟ أم أننا نعيش في فصل جديد من المسرحية ذاتها؟