الراحل إلياس خوري.. عن فلسطين والفدائيّين وعرفات ودرويش والرواية+فيديو وصور
الأيام الفلسطنية/ في استعادة حواري مع الروائي الكبير الراحل إلياس خوري، العام 2016، أتذكر أنه حين تقرر سفري إلى بيروت، وبالتحديد إلى حيث معرض بيروت العربي الدولي للكتاب في دورته التاسعة والخمسين، ومنذ كنت في رام الله، وضعت نصب عينيّ أن أجري حواراً معه، هو الذي حمل قضية فلسطين وأسئلتها في كتاباته ومقابلاته.
ما إن وطئت قدماي أرض بيروت، حتى بدأت الاتصال بعدد من صديقاتي العاملات في وسائل إعلام لبنانية، أو عربية في لبنان، وتلقيت أكثر من وعد بالعثور على وسيلة اتصال به … في اليوم التالي لوصولي، توجهت إلى معرض الكتاب، وبينما كنت أتجول فيه، وأبحث عن عدة روايات، من بينها روايته الجديدة “أولاد الغيتو” أو “اسمي آدم” في زاوية دار الآداب، وإذ به هناك.
كان منهمكاً في ملاحقة طفل يتجول في المكان بعبثية ممتطياً الـ”سكيت بورد”، أعتقد أنه قد يكون حفيده .. كان مشغولاً بملاحقته، حتى عندما اقتحمت لحظته حينها، عرفته بنفسي، وأخبرته أنني أبحث عنه، فأخبرني، دون أن يغفل استراق النظر لمراقبة الطفل المشاكس، أن أسهل الطرق للوصول إليه هو السؤال عنه في زاوية دار الآداب .. التقطت صورة “سيلفي” معه، واتفقنا على إجراء حوار، وزودني برقم هاتفه النقال، فكتبته على دفتر يرافقني، بعد أن طلب مني قراءة الرواية الجديدة، أو على أقل تقدير تصفحها لأخذ فكرة عنها، وهذا ما كان.
قبل مغادرتي بيروت بيوم، توجهت للقائه في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بناء على رغبته .. حين وصلت إلى مكتبه، وجدت أمامه “غلاية قهوة” مغطاة بطبق صغير .. وبينما كان منهمكاً بإنهاء عمل ما على كمبيوتره، طلب من أحد العاملين في المركز أن يصب لي فنجان قهوة من ذات الغلاية، فكنت سعيدة بأنه قاسمني قهوته الخاصة، والمعدة سلفاً، قبل أن نتقاسم أطراف الكلام.
وللحديث بقية في حكايتي مع إلياس خوري، الذي كان مهتماً بنشر الحوار في جريدة فلسطينية، خاصة حين علم أنني أكتب في جريدة “الأيام” المُفضلة لديه.
كان اكتشافاً سيئاً ومحبطاً، حين قررت تفريغ الحوار، حيث اكتشفت أن تحديثاً أوتوماتيكياً على هاتفي النقال، تسبب في فقدان جزء منه.. بقيت مكتئبة لساعات، حتى أنني بكيت.. إنه من أهم الحوارات التي أجريتها.. إنه الحوار الحلم منذ كنت في رام الله، وحتى خروجي من بيروت، مسلحة بكلماته المدهشة عن الشعب الفلسطيني، وبحميمية كبيرة، ولعل هذا ما جعلني أتماسك من جديد، وأشحن ذاكرتي، التي تفاجأت بأنها استطاعت، على عكس العادة، تذكر الكثير من تفاصيل الحوار المفقودة..
تواصلت معه مجدداً، وأرسلت له ما أسعفتني ذاكرتي فيه، ليزيد أو ينقص أو ينقح.
في ذاك الحوار، استرجع خوري بداية عمله الفدائي فأخبرني: عقب هزيمة 1967، وعندما كنت في سن التاسعة عشرة، اتخذت قراراً بالذهاب إلى الأردن، والالتحاق بصفوف الفدائيّين في حركة “فتح”، فأخذت “سرفيس” من بيروت إلى دمشق، وآخر من دمشق إلى وسط مدينة عمّان، وبتّ في أحد الفنادق الفقيرة في وسطها، حيث لم أكن أملك المال الكافي.. في اليوم التالي، استقللت “تاكسي”، وطلبتُ من السائق أن يأخذني إلى إحدى قواعد الفدائيّين.. ذهل السائق من طلبي، وصودف أنه كان فلسطينياً، وأحمد الله أنه كان كذلك، وإلا لتغيّر مصيري تماماً..
أخذني السائق إلى منزلٍ ما بين السلط وعمّان، وقال لي: هنا الفدائيون.. لو رأيت هذا المنزل الآن سأعرفه جيداً، فصورته مطبوعة في ذاكرتي.. طرقتُ الباب، ففتح لي شخص، عرّفته بنفسي، وشرحتُ له الغاية من قدومي فاستغرب، إلا أنه أدخلني إلى المنزل.. كان هذا الشخص هو خليل الوزير (أبو جهاد)، وبعدما استمع إليّ، حاول ثنيي عن قراري وإقناعي بالعودة إلى لبنان، خاصة بعدما عرف منّي أنني بعيد كل البعد عن كل ما له علاقة بالسلاح وأموره..
قال لي: “خليك في دراستك”، لكنني أصررت على طلبي.. أتذكر أنني مكثت يومين مع مجموعة من الفدائيين القادمين من قطاع غزة، وأكرموني بالمزيد والمزيد من الشطّة، طوال تلك الفترة، والحمد لله أنني طُلبت إلى التدريب في أحد المعسكرات لأتخلص من “عقاب الشطة”.
وعن قرار الرئيس الشهيد ياسر عرفات باعتقاله، أضاف خوري: حدث ذلك في العام 1979 على خلفية مقالٍ نُشر في مجلة “شؤون فلسطينية”، لم يعجب عرفات فأمر باعتقالي، وأرسل قوّة حاصرت منزلي، إلا أنني لم أكن فيه، وبقيت مُطارداً عدّة أيام، ولكن لحساسيّة موقفي كوني لبنانياً ونصرانيّاً انضممت بإرادتي إلى صفوف الفدائيين، كان عليّ أن أحلّ الموضوع، وهذا ما حدث.
وعلى إثر ذلك، والحديث لخوري: ردّ فعلي على هذه الحادثة كان تقديم استقالتي من “مركز الأبحاث الفلسطينية”، وبعد تقديمي لهذه الاستقالة ذهبتُ لمقابلة ياسر عرفات بناء على طلبه.. لم يكن مسروراً من هذه الاستقالة، وطلب مني التراجع عنها، ولكنني رفضت، وقلت له: لا أستطيع أن أكون معك، لأنه ليس بمقدوري معارضتك.. تضامن مع موقفي هذا محمود درويش، الذي قام بدوره بتقديم استقالته من المركز ذاته، وسافر إلى تونس بعدها، لكني بقيتُ مع الثورة والفدائيّين بشكل أو بآخر، حتى أجبروا على الرحيل من بيروت العام 1982، وبقيت دونهم لكون لبنان وطني، ولم أواصل رحلتي معهم.
وعن درويش قال خوري: هو أكثر من مجرد صديق، هو رفيق درب.. قطعنا الكثير من محطات هذه الحياة الصعبة سويّاً، كانت البداية حين حضر محمود درويش إلى بيروت، واستقر فيها، وانضم إلى أسرة “مركز الدراسات الفلسطينية”، ومن ثم إلى أسرة تحرير مجلة “مواقف”.. مع الوقت، تحوّلت علاقتي بمحمود إلى صداقة عميقة، وترافقنا في الكثير من المواقف والأحداث، ولاسيما في الفترة التي كان فيها محمود رئيساً لتحرير مجلة “شؤون فلسطينية”، وأنا سكرتيراً لتحريرها..
في هذا المناخ، كتبت روايتي “الجبل الصغير” في العام 1978، وموضوعها الحرب اللبنانية، وهي الرواية الأولى التي تحكي الحرب اللبنانية وعنها، ومنذ ذلك التاريخ دخلت فعلياً في عالم كتابة الروايات، وأذكر أنني قلت في أحد مقالاتي: إن محمود درويش هو شاعري الشخصي، وبالمناسبة، فقد كنتُ حافظاً لأشعاره أكثر منه.
وأكد خوري لي وقتها: لا تعنيني فلسطين الجغرافيا، ولا القيادات الفلسطينية، ما يعنيني هو الشعب الفلسطيني.. أنا لا أحب فلسطين!.. فأغلب الذين أحبّوا فلسطين أو ادعوا حبّها قاموا بقتلها.
يحبّون فيها الأسطورة والوهم، ويطردون شعبها من وعيهم.. لا أحب فلسطين التي يحاول بعض العرب والفلسطينيين أسطرتها على غرار ما قام به الغزاة، فهذه الفلسطين لا تعنيني في شيء..
أحبّ الشعب الفلسطيني، هذا الشعب الذي ظلم في كل مكان، حتى في بيروت.. أنا منحاز لهذا الشعب، وليس إلى فلسطين الجغرافيا التي يتغنى بها الجميع بل ويتاجرون بقضيتها..
الجميع يحب فلسطين، أما أنا فأحب الشعب الفلسطيني
وممّا جاء في الحوار عن الرواية، قوله: حين أكتب عملاً روائياً، لا أفكر بأعمار قارئيّ، فأنا أكتب ما أريد، وما أفكر فيه، وأصوغه بطريقتي بصرف النظر عن أعمار القراء.. ليس ثمة خلطة ما، ولا يعنيني جذب جيل من القراء بعينه .. أكتب منذ زمن طويل، ولرواياتي جمهور من مختلف الأجيال، والأهم أنني أكتب نفسي.