عندما تدار البلاد بعقلية شركة وحين تصبح الربحية شعارًا والسيادة الإنتاجية الوطنية ضحية
في بلد تضاعفت فيه أسعار المواد الأساسية دون كوابح، لم تعد الأزمات العالمية “بحرف الكاف” سوى شماعة بالية تعلق عليها إخفاقات هيكلية أعمق، فما يجري اليوم ليس فقط ارتفاعًا في الأسعار، بل انهيارًا الإنتاج الوطني الغذائي واستسلامًا كاملًا لمعادلة الربح السريع على حساب مصلحة المواطن، فيما اثبتت الحكومة الحالية، التي يقودها رجال أعمال، أنها تُدير البلاد بعقلية شركات، حيث الأولوية دائمًا للميزانيات والأرباح، بينما تتوارى رفاهية الشعب خلف مشهد باهت.
هذه الحكومة وجدت في الاستيراد وسيلة سهلة لتحقيق غاياتها الربحية، بدل أن تتجشم عناء دعم الإنتاج المحلي خاصة في المجال الفلاحي، أو بناء منظومة اقتصادية متماسكة، َوجدت أن الاستيراد هو الخيار الأمثل في عالم رجال الأعمال؛ بضائع جاهزة تصل سريعًا وتُباع بهوامش ربح مغرية و بإجراءات بسيطة وإعفاءات ضريبية وجمركية، دون الدخول في متاهات التفاوض مع العمال أو مشقة الاستثمار في الجودة والابتكار، ضجيج مُفتشي الشغل، ومراقبة أوجه صرف الدعم….بهذا النهج، تم تفريغ السوق المحلية من أي روح تنافسية، وأُطلق العنان لسياسات جعلت الاستهلاك يعتمد كليًا على الخارج.
لنأخذ مثلًا قطاع الحليب.. الشركات الكبرى في هذا القطاع لم تجد مصلحة في دعم مربي الماشية المحليين، الذين يوفرون الحليب السائل الطازج بسعر أربعة دراهم ونصف للتر…لماذا تفعل ذلك وهي تستطيع استيراد الحليب المجفف بأقل من درهمين ونصف؟ الفارق هنا ليس فقط ربح درهمين إضافيين لكل لتر، بل هو دفع الفلاحين المحليين نحو حافة الإفلاس، حيث لم يعد أحد يشتري حليبهم، النتيجة في المقابل: تتجه الأبقار إلى المذابح، ويتخلى الفلاحون عن الزراعة لينضموا إلى طوابير الباحثين عن فرص في قطاعات الخدمات أو حتى الهجرة.
و في سوق اللحوم والزراعة والصناعات التحويلية، القصة تتكرر: الحكومة، بدل أن تنظم السوق لصالح المنتج المحلي، تتركه فريسة لآليات السوق المفتوح، حيث الربح الشخصي يُحدد الأولويات، و قس على ذلك بقية الصناعات الوطنية، مثل النسيج والأواني المنزلية، التي تكافح في معركة خاسرة أمام المنتجات المستوردة تُغرق السوق بأسعار زهيدة، بينما يدفع المواطن ثمنًا أعلى بسبب غياب البدائل المحلية وغياب حتى مراقبة أسعار السلع المستوردة.
و ما يفاقم الأزمة هو أن هذه الحكومة ترى الشرعية السياسية كصفقة شراء وليست تفويضًا شعبيًا، الانتخابات بالنسبة لهم ليست سوى استثمار طويل الأمد، وما يحدث اليوم هو عملية “جني أرباح” استثماراتهم الانتخابية،
في هذا السياق، تُدار البلاد بعقلية مجالس الإدارة، حيث المواطن هو الزبون الذي يجب أن يُستنزف لأقصى حد، وهذا ما نعيشه اليوم على جميع المستويات استنزاف لجيب المواطن من أجل استثمارات لا تعود بالنفع عليه، استثمارات في قطاعات لا علاقة لها بالأولويات التي يفرضها واقع الحاجة في الوطن….ملاعب الهوكي و تيليفريك مهرجانات في ظل غياب تعليم في المستوى و قطاع صحي يلبي الطلب المتزايد.
في ظل حكومة رجال الأعمال أضحت السيادة الاقتصادية سوى مصطلح مثير للسخرية في دفاتر حساباتهم.
هذا الوضع الكارثي يدفعنا للتساؤل: هل يمكن لدولة يقودها رجال أعمال أن تُوازن بين الربح والمصلحة العامة؟ الجواب الواضح هو أن العقلية التجارية قد تُدير شركات بنجاح، لكنها حتمًا لا تستطيع أن تُدير وطنًا يحتاج إلى سياسات تراعي الاستدامة والسيادة الاقتصادية، الأزمة التي نعيشها ليست أزمة أسعار فقط، بل أزمة قيادة تُفضل الطريق السهل للربح السريع على بناء اقتصاد يُحقق الاكتفاء الذاتي ويحمي المواطن.
إلى أن تتغير هذه العقلية، سيبقى المواطن عالقًا بين مطرقة جشع رجال الأعمال وسندان استيراد يسرق من جيبه آخر ما تبقى من أمل.