الرئسيةسياسة

عيد الأضحى في المغرب بين الشريعة والضرورات الاقتصادية: قرارات الغاءات سابقة في سياقات تاريخية

تحرير: جيهان مشكور

على مر العقود، ظل عيد الأضحى مناسبة دينية واجتماعية راسخة في وجدان المغاربة، حتى أطلقوا عليه مسمى “العيد الكبير” تعبيرًا عن أهميته في الذاكرة الجماعية، غير أن هذا الطقس الديني لم يكن دائمًا بمنأى عن التحديات الاقتصادية والمناخية التي دفعت السلطات، في أكثر من مناسبة، إلى اتخاذ قرارات استثنائية بإلغائه.

 

واليوم، يجد المغاربة أنفسهم أمام حدث غير مسبوق في عهد الملك محمد السادس، الذي أهاب بمواطنيه عدم ذبح الأضاحي هذا العام، في ظل تراجع حاد في أعداد المواشي بسبب سوء التدبير و الجفاف المستمر للسنة السابعة على التوالي، وهي أسوأ موجة جفاف تشهدها البلاد منذ ثمانينيات القرن الماضي.

لم يكن قرار التوقف عن ذبح الأضاحي وليد اللحظة، بل هو امتداد لقرارات مماثلة اتخذها المغرب خلال فترات عصيبة، خاصة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، الذي ألغى هذه الشعيرة ثلاث مرات خلال أزمات كبرى هزّت الاقتصاد الوطني وأثرت على استقرار الفئات الهشة.

كل مرة كان الإلغاء يحمل مبررات مختلفة، لكن القاسم المشترك كان دائمًا الحفاظ على التوازن الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، في مواجهة أزمات طارئة فرضت إعادة النظر في العديد من التقاليد.

1963: حرب الرمال والضغوط الاقتصادية.

بعد سنوات قليلة من استقلال المغرب والجزائر، اندلعت مواجهات عسكرية بين البلدين بسبب نزاع حدودي طويل الأمد، فيما عُرف بـ”حرب الرمال”، حيث استمرت الحرب من أكتوبر إلى نوفمبر 1963، وخلفت تداعيات أمنية واقتصادية جسيمة على المغرب، الذي اضطر إلى توجيه موارده لدعم الجيش وتأمين الحدود، مما أثر على الميزانية المخصصة للقطاعات الحيوية الأخرى.

و في ظل هذه الأزمة، قرر الملك الحسن الثاني إلغاء عيد الأضحى، معتبرًا أن الظروف المادية للمغاربة لا تسمح بتحمل أعباء هذه الشعيرة، خاصة مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتحويل الدولة مواردها نحو المجهود الحربي، و رغم تبريرات القرار، فإنه أثار تحفظات شعبية، إذ اعتبره البعض مفاجئًا، لكنه كان في نظر السلطات “تدبيرًا استثنائيًا لمصلحة الوطن”.

1981: الجفاف وأزمة اقتصادية خانقة.

في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، عانى المغرب من موجة جفاف قاسية تسببت في انهيار الإنتاج الفلاحي وتراجع أعداد الماشية، مما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار المواد الغذائية، خاصة في المناطق القروية التي تعتمد بشكل كبير على الفلاحة والرعي.

في ظل هذه الظروف، قرر الملك الحسن الثاني إلغاء عيد الأضحى عام 1981، بهدف الحفاظ على الثروة الحيوانية والتخفيف من الأعباء المالية التي كانت ترهق الأسر المغربية، إلا أن القرار جاء في سياق اجتماعي متوتر، حيث شهدت البلاد احتجاجات واسعة ضد الأوضاع الاقتصادية، بلغت ذروتها في “انتفاضة 20 يونيو 1981 الدار البيضاء” التي عُرفت بـ”أحداث شهداء كوميرا كما وصفها ويزر الداخلية انداك إدريس البصري”، وهي واحدة من أكبر الحركات الاحتجاجية في تاريخ المغرب، والتي قوبلت بتدخل أمني عنيف، وذهب ضحيتها الكثير إن موتا أو تغييبا أو اعتقالا.

ورغم أن قرار إلغاء العيد لم يكن السبب الرئيسي في هذه الأحداث، إلا أنه أضاف إلى حالة الاحتقان الاجتماعي السائدة آنذاك.

1996: ذروة الجفاف وإعلان الكارثة الوطنية.

مرة أخرى، وجد المغرب نفسه أمام أزمة جفاف خانقة في أوائل التسعينيات، حيث شهدت البلاد نقصًا شديدًا في الأمطار لعدة سنوات متتالية، مما أدى إلى تدهور الأراضي الفلاحية وفقدان جزء كبير من القطيع الوطني، وبلغت الأزمة ذروتها عام 1995، حين أعلنت الحكومة رسميًا أن البلاد تواجه “كارثة وطنية”، بسبب انهيار الإنتاج الفلاحي وتزايد معدلات الفقر في المناطق القروية.

في هذا السياق، اتخذ الملك الحسن الثاني قرارًا بإلغاء عيد الأضحى عام 1996، معتبرًا أن التضحية بعدد قليل من المواشي في ظل هذه الظروف كان سيؤدي إلى أزمة طويلة الأمد يصعب تجاوزها، استند القرار إلى توصيات الخبراء الذين حذروا من أن استمرار الذبح الجماعي قد يُلحق ضررًا بالغًا بالثروة الحيوانية الوطنية، مما قد يجعل استعادة توازن القطيع الحيواني عملية شاقة في السنوات اللاحقة ورغم أن جزءًا كبيرًا من المغاربة تفهموا دوافع القرار، إلا أن البعض اعتبره حرمانًا إضافيًا في ظل ظروف اقتصادية صعبة أصلًا.

2024: أزمة غير مسبوقة في ظل التغيرات المناخية.

بعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود على آخر إلغاء، يعود المغرب لمواجهة سيناريو مشابه، لكنه أكثر تعقيدًا من الناحية الاقتصادية والمناخية. إذ تعيش البلاد تحت وطأة أسوأ موجة جفاف منذ ثمانينيات القرن الماضي، مما أدى إلى انخفاض كبير في الموارد المائية وتدهور الأراضي الفلاحية وتشير البيانات الرسمية إلى أن المملكة سجلت انخفاضًا بنسبة 53% في معدل التساقطات المطرية مقارنة بالمتوسط المسجل خلال الثلاثين سنة الماضية، مما انعكس على أعداد الماشية التي تراجعت بنسبة 38%. كما شهدت أسعار الأعلاف ارتفاعًا غير مسبوق، مما جعل تكاليف تربية المواشي باهظة بالنسبة للمربين، وهو ما انعكس بدوره على أسعار اللحوم في الأسواق.

و في مواجهة هذه التحديات، وجّه الملك محمد السادس نداءً إلى المواطنين بعدم ذبح الأضاحي هذا العام، مؤكدًا أن عيد الأضحى “سُنّة مؤكدة مع الاستطاعة”، وأن الظروف الحالية تستوجب الحفاظ على الثروة الحيوانية الوطنية وتخفيف الأعباء عن الأسر المغربية، خاصة الفئات الأكثر هشاشة.

هذه الدعوة تأتي في سياق اقتصادي دقيق، حيث تُثار تساؤلات حول السياسات الفلاحية المتبعة، خاصة تلك المرتبطة بـ”مخطط المغرب الأخضر”، الذي يحمّله البعض مسؤولية تراجع الموارد الفلاحية وعدم قدرة القطاع الزراعي على مواجهة التغيرات المناخية.

يظل قرار عدم ذبح الأضاحي هذه السنة حدثًا استثنائيًا في تاريخ المغرب، لكنه يعكس مرة أخرى كيف أن الأوضاع الاقتصادية والمناخية قد تفرض تغييرات على العادات والتقاليد، حتى لو كانت من أعمق الشعائر الدينية والاجتماعية المتجذرة في المجتم، وبينما يبقى المغاربة متمسكين بأواصر التضامن والتكافل التي تميز عيد الأضحى، يظل التحدي الأكبر هو إيجاد حلول مستدامة لضمان الأمن الغذائي والاستقرار الاقتصادي في مواجهة أزمات قد تصبح أكثر تواترًا في المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى