الرئسيةرأي/ كرونيك

ايت مهدي لم يرتكب جريمة اغتصاب أو فساد مالي بل تسأل عن مصير 12 مليار.. عندما يصبح القانون “تفصيلاً” حسب المقاس

تحرير: جيهان مشكور

في اجمل بلد في العالم ، حيث تتحرك العدالة بخطى ثقيلة نحو الخلف، يصبح من المثير للدهشة أن نكتشف أن بعض الجرائم لا تُعاقب إلا كأنها مجرد مخالفات مرور، فخلال السنوات الخمس الماضية، أصدرت محاكم المملكة 25 ألف حكم في قضايا هتك عرض قاصر، وهي التهمة التي يبدو أن المشرّع قرر أن يجعلها أكثر “لطفًا” من خلال تعريف قانوني لا يتطلب حدوث علاقة جنسية كاملة، بل يكفي أن يكون هناك لمس أو مداعبة مشبوهة، غير أن الواقع، كما تكشفه ملفات المحاكم، يخبرنا أن معظم هذه القضايا كانت في الحقيقة حالات اغتصاب أو استغلال جنسي لقُصّر وقعوا فريسة للذئاب البشرية.

ولكن، لنحاول أن نفهم كيف تُترجم هذه الجرائم الفادحة إلى أحكام قضائية؟ لا داعي للقلق، فـ 77% من المدانين حصلوا على عقوبات لم تتجاوز ستة أشهر، وهي مدة بالكاد تكفي للتفكير في خطيئة صغيرة، ناهيك عن اغتصاب طفل. 15% من المجرمين نالوا أحكامًا بين سبعة أشهر وسنة، بينما 3% فقط تجاوزت عقوبتهم 13 شهرًا، وكأنهم ارتكبوا جريمة أشد خطورة، مثل رفض دفع غرامة مرور في الوقت المحدد، أما الأحكام التي تجاوزت السنتين فقد كانت نادرة، وكأن القضاء المغربي يخشى أن يتعب المجرمون في السجون أكثر مما يجب، و النتيجة؟ 92% من المعتدين على الأطفال خرجوا أحرارًا بعد أقل من سنة، بينما في دول أخرى لا يكفي هذا الرقم حتى لإنهاء الإجراءات القانونية قبل إيداع المجرم في زنزانته المؤبدة، أو حتى إعدامه.

ولكن المفارقة الكبرى ليست هنا، بل في ازدواجية العدالة عندما يتعلق الأمر بأشخاص يجرؤون على انتقاد الوضع القائم، الناشط الحقوقي سعيد أيت مهدي، على سبيل المثال، لم يرتكب جريمة اغتصاب أو فساد مالي، بل تجرأ فقط على التساؤل عن مصير 12 ألف مليار سنتيم التي خصصتها الدولة لإعادة إعمار المناطق المنكوبة جراء زلزال الحوز وأزيلال ودرعة، واكتشف أن أقل من 4% فقط من هذا المبلغ قد تم إنفاقه بعد عام كامل من الكارثة، لتكون المفاجأة؟ حكم عليه بالسجن النافذ لمدة عام، إلى جانب ثلاثة نشطاء آخرين أدينوا بأربعة أشهر، وكأن جريمتهم لا تقل عن جريمة أولئك الذين يعبثون بأجساد الأطفال ثم يخرجون بعد شهور قليلة من الزنزانة وكأن شيئًا لم يكن.

التهم التي وُجهت إلى هؤلاء النشطاء ليست جديدة، بل هي من ذلك النوع الكلاسيكي الذي يُستخدم كلما احتاج النظام إلى إسكات الأصوات المزعجة، نشر ادعاءات كاذبة؟ إهانة هيئة منظمة؟ التحريض على ارتكاب جنايات؟ إنها التهم نفسها التي يمكن استخدامها لتجريم أي شخص يعبر عن رأيه في مقهى، أو حتى يجرؤ على التساؤل بصوت عالٍ عن سبب تأخر الراتب، أما من يتساءل عن الفساد، فقد ينتهي به الأمر في زنزانة قبل أن ينتهي التحقيق في القضية التي كشف عنها.

لكن، ما الذي يسمح بهذه الفوضى القانونية؟ الأمر بسيط جدًا: لدينا في المغرب سحر خاص يُعرف باسم “التكييف القانوني”، وهي قدرة استثنائية للقضاء على تحويل أي شيء إلى أي شيء آخر وفقًا للحاجة.

فإذا كنت شخصًا مزعجًا، فحتى تعليق بسيط على فيسبوك قد يُعتبر “تحريضًا على الفتنة”، أما إذا كنت شخصًا نافذًا، فيمكن بسهولة تحويل قضية اغتصاب إلى “سوء تفاهم”، أو حتى إلى “حالة خاصة تستحق الرأفة”، والقضاة، طبعًا، يتمتعون بـ “سلطة تقديرية” واسعة، مما يسمح لهم بالحكم في قضية معينة بسنة موقوفة التنفيذ، بينما في قضية مشابهة تمامًا، يمكن أن يصدر حكم بست سنوات نافذة، والفرق الوحيد يكون في “هوية” المتهم.

هذه الثغرات القانونية ليست مجرد تفاصيل عابرة، بل هي أساس المشكلة التي تجعل المغرب يتراجع على جميع المؤشرات الدولية المتعلقة بالعدالة والشفافية.

تقارير مثل تقرير مؤسسة “إيريتاج فوندايشن”، ومعهد فريزر الكندي، والمنتدى الاقتصادي العالمي، كلها تؤكد نفس الحقيقة: القضاء المغربي يتدهور من سيء إلى أسوأ، حتى في قدرته على توفير بيئة آمنة للاستثمار، ففي عام 2017، كان مؤشر استقلالية القضاء عند 41.9/100، أما في 2022 فقد انخفض إلى 32.7/100، وإذا استمر الوضع على هذا المنوال، فقد نصل إلى نقطة يصبح فيها المستثمر الأجنبي بحاجة إلى “وساطة” قبل أن يفتح مشروعًا، وإلى “واسطة” قبل أن يحصل على ترخيص، وإلى “معجزة” قبل أن يتمكن من تحصيل أرباحه.

لكن، من السهل دائمًا إيجاد كبش فداء.

ففي كل مرة يتعطل فيها الاقتصاد، يخرج علينا “أصحاب الحكمة” ليقولوا إن السبب هو العمال المضربون، أو المحتجون على الأوضاع المعيشية، أو حتى الفقراء الذين “يتذمرون أكثر مما ينبغي”، أما السبب الحقيقي، فهو منظومة الفساد التي تحكم البلاد، حيث تُصاغ القوانين بطريقة تسمح بمحاسبة الفقراء بصرامة، بينما تفتح الأبواب الخلفية للهروب الآمن لمن يملك المال أو السلطة.

هكذا، بينما تستمر الدولة في إنفاق مليارات الدراهم على تلميع صورتها في الخارج، يظل الواقع المحلي أكثر قتامة من أي تقرير دولي، والنتيجة؟ قضاء يعاقب من يسرق بيضة، ويكافئ من يسرق مزرعة، وأحكام يمكن التنبؤ بها بناءً على “هوية” المتهم بدلًا من طبيعة الجريمة.

العدالة في المغرب ليست عمياء كما يقال، بل هي تفتح عينًا واحدة بحذر، لترى من هو أمامها، وتقرر بعد ذلك إن كانت ستطبق القانون… أم ستطبق “استثناء القانون”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى